السبت، 15 أكتوبر 2011

مناهج تحقيق التراث بين القدامى والمحدثين " رمضان عبد التواب "

حميد المساوي



مقدمة
يقع الكتاب في ست وثلاثين وأربع مائة صفحة، استهله صاحبه بمقدمة ،أشار فيه إلى أن فن تحقيق النصوص عند العرب يمتد إلى فجر التاريخ الإسلامي، لاكما يدعي البعض أنه فن حديث.
وقد اقترنت البدايات الأولى لهذا الفن بعلوم الحديث ( الجرح والتعديل ، السند، تاريخ الرجال، الدراية...). وكثير من الخطوات التي يقوم المحققون بها اليوم هي من نسج القدماء.
والكتاب هذا يحاول رصد هذه القضية؛ بتتبع جهود السابقين في فن التحقيق، ومقارنتها بما انتهى إليه هذا الفن في العصر الحديث، ويتعدى ذلك إلى نقد بعض تحاقيق التراث.

تمهيد
تحقيق النص؛ قراءته على الصورة التي أراد له صاحبه أن يكون عليها، أو على وجه يقرب من الأصل، وفي لسان العرب : " حققت الأمر وأحققته : كنت على يقين منه".
وما دام الأمر يتعلق بالعلوم الإنسانية، فإن كل باحث مطالب بتحقيق النص (موضوع الدراسة أو الاستدلال ). وبشكل عام فكل نص بعد عن الأصل الذي ألف عليه،يحتاج إلى تحقيق.
ويكفي للتدليل على ذلك، نص الفارابي المشهور في القبائل التي تؤخد عنها الغة. والذي أورده السيوطي في المزهر. يقول : " ... وبالجملة فإنه لم يؤخد لا من لخم ولا من جدم لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وإياد لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس . " ( المزهر1/211).
السؤال المحير هو : كيف لليمن أن تكون بالجزيرة مجاورة لليونان؟ وكيف لبكر أن تجاور في الشرق الفرس في إيران، وتجاور في الغرب القبط في مصر؟
بعد مراجعة الكاتب لكتب السيوطي اللغوية، وجد النص في كتاب " الإقتراح في أصول النحو " وفيه صواب العبارة: " ولا من تغلب والنمر، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونانية، ولا من بكر، لأنهم كانوا مجاورين للنبط والفرس " ( الإقتراح، ص: 19).
على أن كثيرا من العلماء احتجوا بالنص دون أن ينتبهوا إلى الخطأ، ومنهم: (محمد علي الدسوقي، في كتابه- تهذيب الألفاظ العامية – ص: 42 ، وصبحي الصالح، في كتابه- دراسات في فقه اللغة – ص: 114 ، وابراهيم السمرائي، في كتابه- العربية بين أمسها وحاضرها – ص: 22 ، وغيرهم الكثير).
والتراث في مجال التحقيق، هو: كل ما خلفه العلماء في شتى المعارف. وهو بذلك ليس محددا بتاريخ معين.

الباب الأول: مناهج التحقيق عند القدماء
الفصل الأول: تاريخ علم تحقيق النصوص عند العرب
إن غاية الكاتب من هذا الفصل هي إثبات براعة العلماء العرب وأسبقيتهم في تحقيق النصوص، ويعد عمل علي بن محمد بن عبد الله اليونيني ( ت: 701ه) في تحقيق روايات ( صحيح البخاري) للإمام البخاري (ت: 256 ه)، خير دليل على ذلك.
وقد تمثل عمل اليونيني في ( مراجعة الروايات المختلفة، وتحقيقها، وتحريرها مما شابها من خلط واضطراب).
أما علماء أوربا، فإنهم لم يكونوا على وعي بهذه المسائل في بداية الأمر (ق: 15م)؛ إذ اقتصروا على طبع ما توافر لديهم من النسخ دون البحث عن الأخرى. حتى إذا ارتقى علم الآداب القديمة ( philology) نجدهم قد عمدوا إلى جمع النسخ المتعددة للكتاب، والقابلة بينها، وتعمدوا في الغالب انتقاء المهم منها. " إلا أنهم في كل ذلك لم يكن لهم منهج معلوم، ولا قواعد متبعة؛ لأنهم لم يكونوا قد فكروا تفكيرا نظريا في تصحيح الكتب، وأي الطرق تؤدي إليه ... " ، وظل الوضع على هذه الحال حتى أواسط القرن التاسع عشر " حين وضعوا أصولا علمية لنقد النصوص (Text criticism)،ونشر الكتب القديمة ". فاقترن ذلك في البداية بالآداب اليونانية واللاتينية،ثم آداب القرون الوسطى الغربية.
" ولم تنشأ الحاجة إلى هذا العلم عند العرب، إلا عندما قل الاعتماد على الرواية الشفوية في تحصيل العلم ". فلم يكونوا يجيزون قراءة المكتوب إلا لمن حصل من شيخه على إجازة برواية هذا الكتاب أو ذاك. هذه الطريقة التي لزلنا نعيشها في قراءة القرآن وحفظه.
لم يقف العرب عند هذا الحد؛ فقد وضعوا قواعد، وضوابط، وطرق في أخذ العلم وتحمله، وهي :
السماع : وهو أن يسمع التلميذ ما يلقيه شيخه من مرويات. ولكم كان العلماء القدامى، وعلماء الحديث على وجه الخصوص، معجبين بهذا الطريق، فكانوا يعدونه أرفع درجات أنواع الرواية.
ويكون التعبير عن ذلك بإحدى العبارات التالية:
 أ) أملى علي فلان: ومن ذلك قول أبي علي القالي في أماليه : " وأملى علينا أبو بكر بن الأنباري هذه القصيدة لجميل:
ب) سمعت: كقول أبي علي القالي في أماليه: " سمعت هذا المثل ( إن البغاث بأرضنا يستنسر) في صباي من أبي العباس، وفسره لي، فقال: يعود الضعيف بأرضنا قويا " (الأمالي : 1/186-187).
ج) حدثني فلان ( الإفراد)، وحدثنا فلان ( الجمع): كقول الزجاجي في أماليه: " حدثنب أبو الحسن بن براء، قال حدثني صدقة بن موسى، قال : كان في جوارنا رجل اسمه حمار، فتزوج امرأة من ولد دارا، فقالت له: أحب أن تغير اسمك، فقال لها: أفعل، ثم قال لها، قد تسميت بغلا! فقالت له، هو أحسن من ذلك ... " ( أمالي الزجاجي، ص: 52 ).
د) أخبرني فلان ( بالإفراد)، وأخبرنا فلان ( بالجمع): كقول القالي في أماليه: " قال أبو علي: وخبرني الغالبي عن أبي الحسن بن كيسان، قال: سمعت بندارا يقول: الوأب الذي ليس بالكبير ولا الصغير " ( أمالي القالي، 2/307).
هـ) قال لي فلان: كقول القالي في أماليه: " وقال لي أبو بكر ابن دريد رحمه الله تعالى: المشاقر: منابت العرفج ".
القراءة على الشيخ : " وذلك بأن يقرأ التلميذ على الشيخ من كتاب، أو يلقي من حافظته على الشيخ، والشيخ منصت يقارن ما يقرأ أو يلقي بما في نسخته، او بما وعته حافظته. ويقول عند الرواية: قرأت على فلان ". نحو قول القالي: " ومما اخترته وقرأته على أبي بكر بن دريد:
 قوم إذا اشتجر القنا              
جعلوا القلوب لها مسالك
 اللابسين قلوبــــهـم               فوق الدروع لــدفع ذلـك "  
                                                     ( الأمالي 1/65).
السماع على الشيخ بقراءة غيره: فيقول عند الرواية: قريء على فلان وأنا أسمع. ومن ذلك قول القالي: " وقريء على أبي بكر بن دريد،وأنا أسمع، لرجل ذكر دارا، ووصف ما فيها، فقال:
 إلا رواكد بينهن خصاصة سفع المناكب كلهن قد اصطلى "( الأمالي 1/47).
الإجازة: وهي أن يأخذ المجاز تصريحا من شيخه برواية نص محدد/ أو كتب لا تسمى بالتفصيل.
المناولة: بأن يعطي الشيخ تلميذه أصل كتاب أو الكتاب الذي يرويه، أو نسخة مقابلة للأصل.
الكتابة أو المكاتبة: وهي أن يتكفل بنفسه إعداد نسخة من كتابه، أو مروياته، فيعطيها لتلميذه، أو يبعث بها إليه.
الوجادة: وهي النقل عن أحد الكتب ، دون رواية عن مؤلفه أو عن راويه ، ويكون القول، وجدت في كتاب فلان.
وحين كثرت "الوجادة" في العصور الوسطى الإسلامية، أصبحت الحاجة ملحة لوضع قواعد ضبط المؤلفات وتصحيحها.
وأول من اهتم بهذه المسألة هم رجال الحديث، الذين كان لاهتمامهم البالغ بعلوم الحديث ونقده، أثر كبير في عنايتهم بطريقة كتابة مؤلفاتهم، ووضع القواعد لضبطها وتحريرها واختيار الطريقة المثلى لذلك.
ومن أهم من ألف في هذه القواعد:
- الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي ( ت: 360 هـ)، بكتابه : "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي ". وهو أول كتاب في علم دراية الحديث.
- القاضي عياض ( ت: 544 هـ)، بكتابه: " الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع "، تحقيق السيد أحمد صقر.
- بدر الدين بن جماعة ( ت: 733 هـ)، بكتابه: " تذكرة السامع والمتكلم في
أدب العالم والمتعلم ".
الفصل الثاني : جهود علماء العربية القدامى في التحقيق
 لقد كان علماء العرب القدماء على وعي بكثير من المسائل التي يعالجها المحدثون في تحقيق النصوص ، من بينها:
1) المقابلة بين النسخ:
إذا كان المحدثون يشترطون على المحقق جمع مخطوطات الكتاب والمقارنة بينها، فقد سبق القدماء إلى ذلك؛ يقول العلموي عن طالب العلم: " عليه مقابلة كتابه بأصل صحيح موثوق به (...)، قال عروة بن الزبير لابنه هشام رضي الله عنهم: كتبت؟ قال : نعم، قال : عرضت كتابك؟ أي على أصل صحيح، قال : لا، قال : لم تكتب..." ( المعيد في أدب المفيد والستفيد، ص: 135، والإلماع، ص: 160).
وهذا القاضي عياض يؤكد على ضرورة المقابلة بين النسخ حرفا حرفا وعدم الانخداع في الاعتماد على نسخ الثقة العارف، ولا الاقتناع بنسخ نفسه دون المقابلة والتصحيح، لأن الفكر يذهب، والقلب يسهو، والنظر يزيغ، والقلم يطغى. ( الإلماع، ص: 159).
حتى إذا اختلفت النسخ وتضاربت، فإن القدماء كانوا يرجحون نسخة هي الأم، والإشارة في الهامش إلى الزيادات والنقص واختلاف الرواية، وهو نفس ما يصنعه المحدثون.
ولم يقف القدماء عند حد التنظير، بل تعدوه إلى الممارسة والتطبيق ومن ذلك ما قاله المعري في قول القائل:
هي الخمر تكنى الطلاء كما الذئب يكنى أبا جعدة
" وهو ينسب إلى عبيد بن الأبرص، ربما وجدا في النسخة من ديوانه، وليس في كل النسخ. والذي أذهب إليه أن هذا البيت قيل في الاسلام، بعدما حرمت الخمر " ( رسالة

 الغفران، ص: 513).
 2) إصلاح الخطأ:
لقد حرص القدماء أشد الحرص على احترام النص، وعدم الجرأة على إصلاح أخطائه بغير علم ولا دراية؛ يقول القاضي عياض: " من شأن الحذاق المتقنين العناية بالتصحيح، والتضبيب، والتمريض... " ( مقدمة ابن الصلاح، ص: 315-316).
أما التصحيح فيجعل على ما صح وروده من جهة النقل، وأما التضبيب أو التمريض فيجعل على ما صح وروده كذلك من جهة النقل، غير أنه فاسد لفظا ومعنى.
ومن الرموز التي اعتمد عليها القدماء في التدليل على ذلك : (صح) : ومعناه أن الحرف أو اللفظ أو الشيء الذي وضع عليه الرمز، صحيح، وأن لا نقصان فيه.
(ص) ضبة: علامة على أن الحرف سقيم .
3) علاج السقط:
لقد تعود صاحب المخطوط إذا سقط منه شيء من النص، أن يضعه على حاشية الصفحة، ويشير إلى مكانه من النص بما يسمى " علامة الإلحاق " أو " علامة الإحالة "، وهي عبارة عن خط رأسي مائل نحو اليمين، إذا كتب الاستدراك على الحاشية اليمنى، أو نحو اليسار، إذا كتب الاستدراك على الحاشية اليسرى. وقد أشار إلى ذلك القاضي عياض في (الالماع، ص: 162-164).
4) علاج الزيادة:
إذا حدث أن وجدت في النص زيادة أو شيء على غير وجهه، تخير القدماء فيه بين ثلاثة أمور ( الإلماع، ص: 170-171):
إما الكشط : وهو سلخ الورقة بسكين ونحوها.
وإما المحو : وهو الإزالة بغير سلخ إن أمكن.
ثم الضرب وهو أنواع :
• الوصل بالحروف المضروب عليها، والخلط بينها بخط ممتد.
• أن يكون الخط كالباء المقلوبة، يضم الحروف من فوق.
• كتابة لفظة : ( لا ) أو لفظة : ( من ) فوق أوله، ولفظة : ( إلى ) فوق آخره أي (من هنا محدوف إلى هنا ).
• نصف دائرة في أول وآخر الكلام البطل.
• صفر في أول وآخر الكلام البطل، وهو علامة النقطة في المخطوطات القديمة لأنهم لم يكونوا في الأصل ينقطون.
5) علاج التشابه بين بعض الحروف:
حتى يتجنبوا اختلاف القراءة، وحدوث اللبس، ووقوع التصحيف والتحريف، عمد القدمى إلى ضبط كتبهم بالنقط والشكل، خاصة إذا تعلق الأمر ببعض الحروف المتشابهة ك ( ب،ت،ث،ن،ي،ج،ح،خ،ذ،ق،ف ... )، إذا عريت من النقط.
وإذا كانت ( كلمة )، عبروا عن ذلك بالحروف؛ كقولهم : بالحاء المهملة، والدال المهملة، والتاء المثناة من فوق، والياء الثناة من تحت، والثاء المثلثة، ونحو ذلك.
6) صنع الحواشي:
الحواشي عكس الهوامش، ومساحتها تكون محدودة جدا بعكس الهوامش، التي يمكن للكاتب أن يتحكم في مساحتها بحسب حاجته. وفي عصر المخطوطات لا وجود للهوامش. أما الحواشي فحتى إن وجدت فإنها تكون من صنع غير المؤلف، ممن قرأ الكتاب وعلق عليه.
 ولأن أغلب المؤلفون لم تسعفهم الضرورة في ذلك، فقد كانوا يكتبون تعليقاتهم على النص في صلب المتن مع التنبيه إلى ذلك ببعض العبارات نحو : ( تنبيه ، أو فائدة ، أو تعليق ، أو حاشية...). 
7–علامات الترقيم والرموز والاختصارات
المسألة عند القدماء لم تكن على نفس ما نعاينه اليوم. ويظهر الاختلاف في :
عند المحدثون ما يقابله عند القدماء
علامات الترقيم . (النقطة) - 0 (دائرة) : هي التي توجد في المصاحف.
-اختلاف في الخطوط
أقواس الاقتباس (...) -يعبرون عن ذلك بـ (هذا قول فلان / انتهى / هذه ألفاظ فلان / إلى هنا قول فلان ...)
الرموز الكلام يكون تاما -يختصرون الكلمة الأخيرة بـ (أ هـ)
الاختصارات - -مثل ذلك ما قام به الفيروزبادي في مقدمة قاموسه : ج = جمع / م = معروف / ع = موضع / د = بلد / ة = قرية.
-ثنا، نا = حدثنا / أنا = أخبرنا ...
-عندما يقابلون النسخ يضعون هذا الرمز (0) وعلى الحاشية المجاورة كلمة (بلغ)

الفصل الثالث : نماذج من جهود علمائنا القدامى في التحقيق
لم تتوقف جهود القدماء عند مستوى التنظير مغفلين المستوى التطبيقي، وإنما حاولوا أن يزاوجوا بين المستويين.
من أعلام هؤلاء المحققين، الإمام عبد القادر البغدادي (ت 1093 هـ) في كتابه : "خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب".
وهو مثال للعالم الواسع الاطلاع على المكتبة العربية بفروعها المختلفة، ومن أمثلة التحقيق عنده :
1 –المقابلة بين النسخ :
من ذلك موقفه من البيت الذي يقول فيه صاحبه :
"إذا ابن أبي موسى بلالا بلغته فقام بفأس بين وصليك جازر
بيت القصيد هنا كلمة (بلالا) فينبغي أن يكون بالرفع، لأنه بدل من ابن أو عطف بيان له، وقد رأيته مرفوعا في نسختين صحيحتين من إيضاح الشعر لأبي علي الفارسي، إحداهما بخط أبي الفتح عثمان بن جني" (1/450).
2 –الاجتهاد في تخريج النص :
"ثم قال (ابن خلف) : وقد قيل إنه يجوز أن يكون (أسهل) اسما لموضع بعينه، أقول : قد فتشت كتب اللغة وكتب أسماء الأماكن، كمعجم ما استعجم، ومعجم البلدان، فلم أجد له ذكرا فيها" (1/281).
3 –تكميل الأبيات وتخريجها :
"أنشد
... ... ... ... ... ... ... ... سماء الإله فوق سبع سمائــيا
وصدره :
له ما رأت عين البصير وفوقه ... ... ... ... ... ... ... ...
 وهذا البيت من قصيدة طويلة لأمية بن أبي الصلت   (1/118).
 4 –نسبة الأبيات المجهولة :
"أنشد :
يقول الخنى، وأبغض العجم ناطقا إلى ربنا صوت الحمار اليجـــدع
... وهذا بيت ثاني أبيات سبعة أوردها أبو زيد في نوادره لذى الخرق الطهوي" (1/15).
 ومن المسائل التي عالجها البغدادي أيضا في كتابه، التنبيه على اختلاف الروايات، وكذا تراجم العلماء والشعراء... 
الباب الثاني : مناهج التحقيق عند المحدثين
مع حلول العصر الحديث، ازدادت العناية بفن التحقيق فأخذ العلماء في التأليف في أصول وقواعد هذا الفن، وتعدى الأمر تلك المحاولات البسيطة في التحقيق، إلى محاولات رائدة، وهذه بعضها :
-تحقيق أحمد زكي باشا لكتابي : "أنساب الخيل" و"الأصنام" لابن الكلبي، مطبعة دار الكتب بالقاهرة سنة 1914 م.
وهما من أوائل الكتب التي تضمنت كلمة "تحقيق" لأول مرة.
وقد كان الرجل متأثرا في عمله هذا ببعض المستشرقين، أمثال : وليم رايت (الإنجليزي) W.wright الذي نشر "الكامل" للمبرد، طبعة ليبزج سنة 1864 م، وجوستاف يان (الألماني) G. Jahn الذي نشر شرح المفصل لابن يعيش، طبعة ليبزج سنة 1882 م. وغيرهم... .
-أصول نقد النصوص ونشر الكتب، للمستشرق الألماني "برجشتراسر" Bergestrasser وهو أول نص يؤلف باللغة العربية عن هذا الفن، وكان عبارة عن محاضرات ألقاها على طلبة الماجستير بكلية الآداب بجامعة القاهرة سنة 1931م.
-تحقيق النصوص ونشرها، للأستاذ عبد السلام محمد هارون، وهو أول كتاب مطبوع باللغة العربية في هذا الفن، طبع بالقاهرة سنة 1954 م.
والكتاب الذي بين أيدينا، وغيره من المؤلفات الكثير.
والسؤال الذي يطرح نفسه ها هنا هو : كيف عالج هؤلاء المؤلفون وغيرهم من المحدثين، قضية التحقيق؟

الفصل الأول : كيفية تحقيق النصوص
 سبقت الإشارة إلى أن تحقيق النص هو رده إلى الصورة التي أرادها له صاحبه. للوصول إلى هذا الهدف وضع المحدثون مجموعة من الخطوات هي على الشكل التالي: 
أولا : جمع النسخ المخطوطة للنص
لتحقيق أي نص لابد في بداية الأمر من جمع مختلف نسخه المخطوطة، وهذا الجمع لا يتم إلا بالاطلاع على المصادر التالية :
1 –"كتاب تاريخ الأدب العربي" لكارل بروكلمان، وهو ليس كتابا في تاريخ الأدب بالمعنى المتداول، وإنما تسجيل لكل ما وصل إلى علم صاحبه مما ألف باللغة العربية، مخطوطا أو مطبوعا.
وفرغ ذلك بروكلمان في بداية الأمر في بطاقات تحمل اسم الكتاب ومؤلفه ورقمه في المكتبة التي يوجد بها، إن كان مخطوطا، وتاريخ طبعه ومكان الطبع، إن كان مطبوعا، وبعد ذلك بحث في ترجمة صاحب الكتاب، وبعد هذا كله صنف البطاقات، بحسب العصور التاريخية.
وقد قسم بروكلمان كتابه إلى أربعة كتب، خص الأول منها للأدب العربي منذ بدايته حتى أواخر العصر الأموي (132 هـ) والثاني لبداية العصر العباسي إلى سقوط بغداد في بد المغول (656 هـ)، والثالث يبدأ من حكم المغول حتى سنة (1949 م). والرابع خاص بالأدب العربي الحديث في مصر منذ الاحتلال الإنجليزي، وفي سوريا، والمهجر، والعراق، والجزيرة العربية، والمغرب.
وقد ترجم الدكتور عبد الحليم النجار ثلاثة أجزاء الأولى من الكتاب إلى العربية (دار المعارف بالقاهرة، سنة 1959-1962م).
 وترجم الرابع والخامس والسادس إلى العربية الدكتور رمضان عبد التواب باشتراك مع الدكتور السيد يعقوب بكر (دار المعارف سنة 1975 – 1977م)، والأجزاء كلها تمثل ثلث الكتاب الأصلي.
 2 –"تاريخ ال تراث العربي" لفؤاد سزكين (أحد الأتراك)، وهو كتاب ضخم، ابتدأ في تخريجه مند سنة 1967 م، صدر منه حتى الآن تسعة مجلدات كبار، وهو عمل متمم لعمل بروكلمان.
3 –"إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب" لياقوت الحموي (ت 626 هـ) فائدته في معرفة أماكن المخطوطات التي لم تدرج في فهرس من الفهارس المنشورة.
وإذا كثرت نسخ الكتاب الخطية، كان الفيصل في ترتيبها، ثلاثة أمور :
1 –قدم النسخة : ويعرف ذلك من التاريخ المدون على آخرها، وكذلك شكل ورقها، وخصائص خطوطها، وقدم النسخة لا يشكل بالضرورة مبررا لاتخاذها أما، فقد تكون نسخة حديثة ودقيقة، أنفع من نسخة قديمة مملوءة بالأخطاء.
2 –علم الناسخ : فقد تكون هناك نسخة قديمة، غير أن ناسخها جاهل كثير الخطأ والتصحيف، وبجوارها نسخة حديثة، غير أن ناسخها علم جليل، مشهود له بالدقة وتحري الصواب، وعندئذ لابد أن يقع اختيار المحقق على هذه النسخة الحديثة.
3 –كمال النسخة : وهنا يقع الاختيار على النسخة الكاملة للكتاب إذ قد يحصل أن يقع خرم في أوراق المخطوطة، مما يخرج الكلام عن سياقه.
وترتب النسخ المخطوطة، من حيث علو الدرجة على النحو التالي :
أولا : النسخة التي بخط المؤلف : وهنا تطرح مشكلة المسودات والمبيضات وهو اصطلاح قديم، والمقصود بالمسودة النسخة التي لم تسوا. أما المبيضة فهي التي سويت، وارتضاها المؤلف أن تخرج للناس على أتم صورة.
ثانيا : النسخة المقروءة على المؤلف.
ثالثا : النسخة المنقولة عن نسخة المؤلف، أو المقابلة بنسخة.
رابعا : النسخة التي كتبت في حياة المؤلف، وتعرف عندما يقول الناسخ بعد ذكر اسم المؤلف "أطال الله عمره" أو "أدام الله توفيقه".

ثانيا : توثيق عنوان الكتاب، ونسبته إلى مؤلفه
كي يتأكد المحقق من صحة عنوان الكتاب، لابد من الرجوع إلى ما ألفه من كتب، فقد يعرض لذكره في إحداها، أو الرجوع إلى كتب التراجم التي عقدت له ولمؤلفاته ترجمة، أو كتب الفهارس (الفهرست، كشف الظنون ...).
وأحيانا ينسب الكتاب إلى غير مؤلفه، والمحقق الفطن هو الذي يستطيع بالفحص والتدقيق، اكتشاف الخطأ في هذه النسبة.
ومثال ذلك كتاب "نقد النثر" الذي نسب خطأ لقدامة بن جعفر وهو في الأصل جزء من كتاب "البرهان في وجوه البيان" لابن وهب.
ثالثا : التمرس بالخطوط
على المحقق أن يكون عالما بفن الخطوط، حتى لا تختلط عليه الألفاظ والحروف باختلاف خطوط المخطوطات.
ويرجع الكاتب هذا العيب في الخط العربي إلى الأصول التي أخذ منها وهي الخط النبطي، والخط الفينيقي (والنبط والفينيق، قوم من الساميين وجدوا قبل مجيء الإسلام).
رابعا : معرفة مصطلحات القدماء في الكتابة
من المصطلحات التي يجب على المحقق أن يلم بها من أجل الوقوف عند المعنى الصحيح للكلمة، ما يلي :
1 –في الكتابة المغربية : يدل على الشدة والفتحة بعلامة مشابهة للعدد (v)، ويدل على الشدة والضمة بعلامة مشابهة للعدد ( ) فوق الحرف، وإن وضعت العلامة الأخيرة تحت الحرف فهي دليل على الشدة والكسرة.
2 –معرفة علامات إهمال الحروف غير المعجمة.
3 –قد تكتب الكاف كاللام المقوسة بعض الشيء، (وهو أمر شائع في الكتابات القديمة)، فيظن المحقق بها لاما، ويكون بذلك عوض أن يكتب مثلا (يؤكد)، يكتب (يولد)، ويكون قد خرج عن المعنى.
4 –التعقيبة : هي كلمة تكتب في ذيل ظهر الورقة للحفاظ على ترتيب الأوراق، لأن القدماء لم يكونوا يعرفون ترقيم الصفحات.
خامسا : المران على أسلوب المؤلف ومراجعة كتبه
لكل مؤلف أسلوبه في الكتابة، وكي يعي المحقق هذا الأسلوب لابد له من قراءة الكتاب مرات، ومرات، ويعين على معرفة أسلوب المؤلف أيضا، قراءة كتبه الأخرى إن كانت له كتب أخرى.

الفصل الثاني : وسائل تحقيق النص
من هذه الوسائل :
أولا : الشك في النص أو الشك في النفس
"المحقق المنصف هو الذي يبدأ عادة باتهام نفسه، قبل أن يتهم النص الذي أمامه ..."؛ ومعنى ذلك أن يبدي رأيه فيما أشكل، فإن تيقن في نفسه وأسعفه رصيده اللغوي، فإن تيقن أن ذلك صحيحا يبحث له عما يدعمه، وإن كان خطأ بحث له عن الصواب. فالمحقق دائما في البحث.
ومن الأمثلة على التغيير الناتج عن سوء الفهم، "ما صنعه محمد عبد المنعم خفاجى في تحقيقه "قواعد الشعر" لثعلب، ففي بعض فصول هذا الكتاب، يقسم ثعلب أبيات الشعر إلى أقسام متعددة، منها ما سماه هو : "المعدل من أبيات الشعر". وعبارة : "وقال (ثعلب) : المعدل من أبيات الشعر ما اعتدل شطراه".
لكن المحقق "لم يفهم النص، فقطعه عند كلمة : "أبيات"، وجعل "المعدل" : "المعدل" بالذال المعجمة، وقال عنه في الهامش إنه "المعذل بن عبد الله الليثي، شاعر إسلامي قليل الشعر".
فانظر بهذا الخطأ كيف تحول اسم بيت من الشعر إلى اسم شاعر.
مسألة أخرى، إذا حصل فوجد المحقق، المؤلف قد أخطأ، فإنه لا يجب أن يصلح الخطأ في متن الكتاب، وإنما يبقى عليه، ويشير إلى وجه الصواب فيه وفي هوامش التحقيق.
ثانيا : مراجعة مصادر المؤلف
من أهم وسائل تحقيق النص، مراجعة مصادر المؤلف، التي استقى منها مادته العلمية، وكلما تعددت المصادر سهل الوصول إلى الصواب على الرغم مما في تصفح الكتب بأكملها، من مشاق.
"وإهمال الرجوع إلى مصادر المؤلف، يؤدي إلى كثير من الأوهام والخلل في تحقيق النص، والإبقاء على ما أصابه من تحريف وتصحيف.
ومن أمثلة ذلك ما وقع فيه محقق كتاب : "المسائل والأجوبة" للبطليوسي، من أخطاء (فمثلا ص 156) في نص نقله البطليوسي عن ابن قتيبة في "أدب الكاتب" : "وإذا اجتمعت الضأن والمعز وكثرتا، قيل لهما : ثلاثلة"، ولو رجع المحقق إلى أدب الكاتب (ص 65) لعرف أن الصواب : "ثلة" لا "ثلاثلة" كما في المخطوط".
ثالثا : مراجعة المؤلفات المماثلة
كما يجب على المحقق مراجعة مصادر المؤلف، يجب عليه أيضا مراجعة المؤلفات المماثلة في الموضوع للكتاب الذي يحققه.
فإن كان في النحو، راجع كتب النحو، وإن كان في الفقه الشافعي، راجع الكتب المتخصصة بذلك، وهكذا في جميع الموضوعات.
رابعا : مراجعة النقول عن الكتاب، والحواشي والشروح
في بعض الأحيان قد لا يكون للمحقق مناصا من هذا العمل فلولا الحواشي والشروح التي صنعها العلماء لبعض الكتب لكان متعذرا على بعض المحققين فهمها؛ "فلا يحق مثل أن ينشر كتاب سيبويه، دون رؤية أحد الشروح الموسعة عليه، كشرح أبي سعيد السيرافي مثلا...".
خامسا : تخريج النصوص
"تخريج النصوص هو البحث لها عما يؤيدها، ويشهد بصحتها في بطون الكتب ...". فقد يبدو النص واضحا من ظاهره، فيتهاون المحقق عن مراجعته وتخريجه في المصادر، ما بإمكانه أن يفسد النص، أو ينسبه لغير قائله، ومثال ذلك ما أورده المرادي في كتابه "الجنى الداني في حروف المعاني"، ما نصه : "وقد جعل بعضهم اللام في قوله تعالى : (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) لام الجحود، على قراءة الكسائي" (الجنى الداني، ص 117).
وقراءة الكسائي هي : "لتزول"، وصواب العبارة "على قراءة [غير] الكسائي"، فكان حذف [غير] هو الذي أخرج النص عن أصله، فنسبه لغير قائله، وهذا غير جائز في التحقيق البثة، لذلك يجب أن يكون المحقق حذرا في مثل هذه الأمور.
والنصوص التي يتم تخريجها في الكتاب المحقق كثيرة، منها ما يتعلق بالقرآن، ومنها ما يتعلق بالأحاديث، ومنها ما يتعلق بالأشعار، والأمثال، والأعلام، وأسماء الأمكنة والبلدان، ومعاجم اللغة.

الفصل الثالث : إعداد النص المحقق للنشر
من الأمور التي يجب أن يأخذ بها المحقق في هذه المرحلة، ما يلي :
أولا : المقابلة بين النسخ
إن الهدف من المقابلة بين النسخ هو الخروج بصيغة صحيحة، وإثباتها في صلب النص عند نشره، أما النسخ الأخرى فتوضع في هامش الصفحة.
هذه الصيغة الصحيحة يتوصل إليها المحقق، عند مراعاة ما يسمى (بالمواضع الموازية في نص الكتاب)، هذه المواضع لا تتحقق إلا بطريقتين، أولاهما عرضية، والثانية نظامية (منهجية).
أما الأولى فأن يقرأ الكتاب، ويحدد ما فيه من الشكوك والمشكلات ومحاولة التوصل إلى حل.
وأما الثانية فتتمثل في وضع "فهارس للكتاب" تحتوي على كل ما يكون جديرا بالالتفات إليه، من المفردات، والتراكيب، والعروض، والنحو ...".
وقد تكشف المقابلة في بعض الأحيان عن الخلل في ترتيب أوراق هذا المخطوط أو ذاك.
والتغيير الحاصل في النص من لدن الناسخ، قد يكون تعمدي بأن يتقدم الناسخ إلى الإيضاح، وإلى ما يظنه إصلاحا، فيكتب ما يخالف الأصل، وقد يكون اتفاقي في حال إصابة الناسخ بالسهو والغفلة.
ومن أسباب الوقوع في التحريف النقل من عدة نسخ، مخطوطة بخطوط متنوعة، ويزداد التحريف استفحالا إذا لم يكن المحقق على إلمام ودراية بتلك الخطوط. مثال ذلك في ديوان عبيد بن الأبرص، الذي نشره المستشرق الإنجليزي : لايل lyall، فقد جاء فيه: "حتى أتى شجرات واستكل عنهن" وفي ذلك تحريفان، والصواب :واستظل تحتهن".
وأغلب الظن أن الديوان كان مكتوبا بالخط المغربي، والظاء فيه شبيهة بالكاف في الخط النسخي.
 وقد يكون التصحيف ناتجا عن خطأ في السماع "ومن ذلك ما زوى عن علي بن الحسن الأحمر، أنه قال يوما أمام الكسائي : "يقال : حمراءة وبيضاءة، فقال له الكسائي : ما سمعت هذا ! فقال الأحمر : بلى والله، سمعت أعرابيا ينشد، يقال له مزيد:
كأن في ريقته لما ابتسم
بلقاءة في الخيل عن طفل متم
فقال الكسائي : ويحك ! إنما هو : بلقاء تنفي الخيل عن طفل متم".
وقد يكون التصحيف ناتجا عن خطأ في الفهم أحيانا، فقد "حكى العسكري (...) أن بعض المحدثين صحف : "لا يورث حميل إلا ببينة" فقال : "لا يرث جميل إلا بثينة" (شرح ما يقع في التصحيف والتحريف، ص 51).
والحميل : هو الذي يحمل من بلده صغيرا، ولم يولد في بلد الإسلام.
ومن التحريفات التي صادفها الكاتب في بعض رسائل طلابه : "وكنا نتهاواه"، والصواب : "وكنا نتهاداه".
خلاصة القول، يجب على كل محقق أن يكون ذا سعة معرفية وأن يكون صبورا وأمينا ومرهف الحس في التعامل مع المخطوط.
وقد ذكر الكاتب مجموعة من مؤلفات القدامى في التصحيف والتحريف، سنكتفي ببعضها :
-"تصحيف العلماء"، لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (تـ 276 هـ).
-"التنبيه على حدوث التصحيف"، لحمزة بن الحسن الأصفهاني (تـ 350 هـ).
-"التنبيهات على أغاليط الرواة"، لعلي بن حمزة البصري (تـ 375 هـ).
-"تلخيص المتشابه في الرسم وحماية ما أشكل منه عن نوادر التصحيف والوهم"، لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (تـ 464 هـ).
 -"تصحيح التصحيف وتحرير التحريف في اللغة"، لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (تـ 764 هـ).
من المحدثين :
-عبد السلام هارون، الذي عقد في كتابه "تحقيق النصوص ونشرها" فصلا بعنوان: "التصحيف والتحريف" (65-71).
-محمود الطناحي، الذي ضمن كتابه : "مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي"، محاضرة عن التصحيف والتحريف (285-316).
ثانيا : الزيادة والنقص
الزيادة والنقص في النص لا تكون إلا لضرورة، وحتى وإن حدثت الزيادة فيجب أن توضع بين قوسين، ويشار إلى مكان استجلابها في الهامش.
أما النقض فإن حدث، فإن ذلك يسمى "بالخرم"، وقد يكون السبب فيه ما يسمى "بانتقال النظر في القراءة".
من ذلك ما حدث للبلاذري في "فتوح البلدان"، وهو يتحدث عن فتح دمشق؛ قال : "دخل يزيد من الباب الشرقي صلحا، فالتقيا بالمقسلاط، فأمضيت كلها على الصلح" (1/147)، وهو نص غير مفهوم على هذه الصورة.
وإذا رجعنا إلى مصدره (الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام) وجدناه كما يلي : "دخل يزيد من الباب الصغير قسرا، ودخلها خالد بن الوليد من الباب الشرقي صلحا، فالتقيا بالمقسلاط، فأمضيت كلها على الصلح" (177).
وقد يؤدي انتقال النظر أحيانا إلى الزيادة إلا أن ذلك نادرا بالمقارنة مع ما يحصل من نقص.
وليس "انتقال النظر" هو السبب الوحيد فيما يحصل من نقص أو زيادة، فهناك بعض النساخ الجهلة الذين يقحمون في النص ما لا يطيقه.
ثالثا : ضبط ما يشكل من الكلمات
ما من كتاب وإلا يحتاج عند تحقيقه إلى ضبط الكلمات المشكلة، شريطة ألا يتعارض ذلك مع قصد المؤلف.
ويكون الضبط ضروريا أكثر عندما يتعلق الأمر بالوزن كآيات القرآن الكريم، وأبيات الشعر، فالأمر أشد حساسية؛ فتغيير حركة أحيانا قد ينجم عنه اختلال الوزن بأكمله.
وإذا كانت المخطوطة بخط المؤلف، فلا يجب أن يغير من ضبطها شيئا، إلا عندما يتوفر النص الشاهد على ثقافته.
رابعا : الإشارة إلى مصادر التخريج
مصادر التخريج : هي المصادر التي اعتمدها المحقق في إثبات صحة النص الذي يحققه، وفي ذلك خطوات :
أول خطوة : تتمثل في مراجعة مصادر المؤلف مخطوطة كانت أو مطبوعة، والإشارة إلى مكان وجود النص في كل مخطوط، إن حدث أن وجد، بعد ذلك يكون المحقق ملزما بنقل النص، ووضعه في الهامش، حتى يتبين صنيعه في النص المحقق.
ومما ينصح به في هذه الحال، هو تخريج النصوص بالاستناد على المصادر الثانوية (عدم الوساطة)، وذلك بالفعل إذا أمكن الاطلاع على المصدر الأساس.
ثاني خطوة : تتعلق بالإحالة : وتتم بـ : ذكر اسم الكتاب مختصرا، وإن كان مكونا من أجزاء يجب ذكر رقم الجزء ورقم الصفحة؛ هكذا : (عيون الأخبار، 2/116)، ولا داعي لذكر اسم المؤلف إلا إذا كان اسم الكتاب مشتركا بين مؤلفين (كالكامل للمبرد / والكامل لابن الأثير).
وقد اعترض الكاتب على تقديم اسم المؤلف، على اسم الكتاب، في الإحالة وعدا ذلك بدعة وافدة من الغرب. لابأس أن تستخدم مع المصادر الغربية.
ومما يعترض عليه الكاتب أيضا : ذكر العنوان بتفاصيله، ويجد في لائحة المصادر غنى عن ذلك، وأيضا عبارة "المصدر نفسه" أو "نفسه" وعيب ذلك يكمن في ضرورة النظر إلى هامشين، بدلا من هامش واحد خاصة إذا كان الأول في صفحة، والثاني في صفحة أخرى.
من البدع أيضا الفصل في الهامش بين المصادر بفاصلة، والمكان وفي هذا كله للواو، مثال ذلك اختصار أسماء الكتب في حروف (تاج العروس : ت ...).
ثالث خطوة : تتعلق بتخريج الأشعار، وأول شيء يراعى في تخريج الأشعار هو الوزن، بالإضافة إلى رؤية الدواوين والمجاميع الشعرية.
بقي الحديث عن المعاجم اللغوية في التحقيقات والبحوث : في هذا الحال يكون الاكتفاء بذكر المادة في المعجم دون ذكر الجزء والصفحة بدعة لا أساس لها من الصحة.

الفصل الرابع : مكملات التحقيق والنشر
من هذه المكملات :
أولا : المقدمـــــــــــــة
"تشتمل على ترجمة وافية لصاحب الكتاب المحقق، وكلمة عن قيمة الكتاب وفائدته في فنه، مع العناية بإظهار تأثره بغيره وأثره فيمن اتبعه، ويلي ذلك وصف للمخطوطات التي توجد من هذا الكتاب في العالم، وبيان لما اعتمده المحقق منها لإخراج النص".
ثانيا : الفهارس
الفهرس هو مفتاح الكتاب، والذي يصل من خلاله الباحث إلى بغيته بأقل جهد وأقصى سرعة ممكنة.
وتتعدد الفهارس بتعدد المواضع، فهناك : فهارس الآيات، والحديث والأثر، والأمثال والحكم، واللغة، والقوافي، والأعلام، والأمم والأماكن، والكتب ... .

الباب الثالث : مقالات في نقد تحقيق التراث
في هذا الباب عرض رمضان عبد التواب لبعض كتب التراث التي تم تحقيقها، وفي نظره أن هذه التحاقيق لازالت تعتريها العديد من الشوائب.
من هذه الكتب : "المزهر في علوم اللغة"، للسيوطي، و"حول لحن العوام" لأبي بكر الزبيد، و"العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي... .
وسنكتفي بالوقوف عند الكتاب الأول، وموقف رمضان النقدي منه.
يرى رمضان عبد التواب أن كتاب "المزهر في علوم اللغة"، من أجل كتب اللغة وأنفعها.
والكتاب على نفاسته، لم تطله بعد يد التحقيق، بكل ما تحمل الكلمة من معاني وآية ذلك حسب الكاتب :
1 –إذا كان من شروط التحقيق، معرفة نسخ المخطوط العديدة بالرجوع إلى كتب وفهارس المخطوطات (كتاب بروكلمان مثلا)، فإن محققي هذا الكتاب (هم : محمد أحمد جاد المولى، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي محمد البجاوي، م دار إحياء الكتب العربية، 1958 م)، قد أغفلوا هذا الجانب، واكتفوا بالنسخ المطبوعة من قبل.
2 –لم يقف بهم الأمر عند هذا الحد، بل أخذوا في إضافة الكثير إلى صلب النص من كتب أخرى.
فالمعروف إذا أضاف المحقق إلى النص حرفا أو لفظا يقتضيه السياق، أن يضعه بين قوسين تنبيها على ذلك، أما أن ينقل إلى صلب النص عبارات وجملا كاملة من كتب أخرى، دون حاجة إلى ذلك، فهذا ما لا يقبله العقل.
3 –إنهم أغفلوا بعض الألفاظ، لم يضبطوها واكتفوا بالإشارة إليها في ذيل الصفحات، مع الحاجة الماسة إلى ضبط بعضها؛ من ذلك قول السيوطي في المزهر : "وقال أبو عبيد في الغريب المصنف : لا يعرف في كلام العرب : فعليل ولا فعليل، إنما هو فعليل"، (فقد تركت هذه العبارة غير مضبوطة، ولو رجع الناشرون لاستطاعوا ضبطها، وصواب الضبط كما في مخطوطات الغريب المصنف : "لا يعرف في كلام العرب فعليل ولا فعليل، إنما هو فعليل").
4 –أن المحققين يقرون التحريف أحيانا، ويخطئون المصادر الأخرى الصحيحة، ففي نشرتهم للمزهر يبقون على عبارة "أبزت له وهبزت له" مع أنها هي التحريف، والصحيح ما ذكره أبو علي القالي في آماليه، "يقال : أنرت له وهنرت له".
هذا بالإضافة إلى تكرار بعض العبارات، وبعض الأخطاء المطبعية، مع وجود خلل في الفهارس،.


خـــــاتمـــــة :

يحق القول إن رمضان عبد التواب قد بلغ جهدا مضاعفا في كتابه هذا، وأبان عن براعته وأحقيته بالتحقيق.
وفي نظري أن كتاب رمضان عبد التواب هذا، من أمهات الكتب، التي يجب أن يرتكز ويعول عليها في التحقيق.
أتمنى ألا أكون قد أسأت إلى هذا الكتاب بهذا التلخيص الوجيز، بحكم أن كل كلمة فيه، أساسية في هذا الباب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين
والسلام.