الاثنين، 24 نوفمبر 2014


الأسلوبية والبلاغة. أية علاقة؟
ذ. حميد المساوي



يرى المسدي أن ما تتصف به البلاغة القديمة من معيارية، وخضوع للمنطق، وعدم التمييز بين أنماط اللغة، والقصور عن الإحاطة بكل جوانب العمل الأدبي، هو ما أدى الى ظهور الأسلوبية بكل توجهاتها فكان هدفها هو البحث عن مكونات الكلام الفني، وعما يميزه عن بقية مستويات الخطاب وسائر أصناف[1] الفنون الإنسانية إنها رؤية جديدة وبديل لساني في نقد الأدب وهو ما يؤكده عبد السلام المسدي بقوله:" هذه المكتسبات المبدئية تكاد تنبئنا بأن تحولا جذريا سيغزو الأدب وتياراته النقدية وسيكون من تولد إني جديد قد لا يتعذر معه أن تتجاوز الأسلوبية نفسها بنفسها"[2].

إنما تسعى بشكل من الأشكال الى رفض كل ما يمت الى التبعية والسيطرة بصلة[3]. وهذا لا يعني الانفصال المطلق عن القديم وإنما هي دعوة الى تجنب الرؤية السلفية التي تجعل من البلاغة قراءة للحاضر على ضوء الماضي يقول بيير كوينتز في مقابل فكرة الرجوع الى البلاغة كقراءة ارتدادية ، نرى هنا فكرة رجوع البلاغة الذي يعني حسب منظور باشلار إجراء تواتريا أي قراءة الماضي على ضوء إشكالية معاصرة"[4].

وقد تحدث (شبلنر) عن طبيعة وحدود استفادة النظرية الأسلوبية من الخصائص النوعية للبلاغة شريطة التعامل مع هذه الخصائص على أساس أنها نظام من نموذج جمالي واستدلالي يقول :" إن المحسنات البديعية وألوان البيان لها أهمية كبرى في النظرية الأسلوبية إذا فهمت على أنها نظام من نموذج جمالي واستدلالي يوضح تحت تصرف المؤلف ليعطي به تأثيرا معين عند جمهوره.."[5].


 




[1] -  الأسلوبية  والأسلوب ، د.عبد السلام المسدي ،الدار العربية للكتاب ط2 سنة 1982 ص 37
[2] - نفسه ص 22
[3] - أثر اللسانيات في النقد العربي الحديث من خلال بعض نماذج :توفيق الزيدي الدار العربية للكتاب سنة 1980 ص 94
[4] - الأسلوب بين اللغة والنص : عز الدين الذهني المطبعة والورقة الوطنية والورقة الوطنية مراكش ط 1 سنة 2005
[5] - نفسه ، ص 22.الأسلوبية والبلاغة. أية علاقةhttp://hamidzag.blogspot.com/p/blog-page_2366.html

الأحد، 23 نوفمبر 2014

   
   
المنهج الاجتماعي وعلاقته بالأدب  
ذ. حميد المساوي             
تمهيد:

يقوم المنهج الاجتماعي على دراسة الأدب في علاقته بالمجتمع، وذلك لما بينهما من علاقات متينة أقر بها فلاسفة اليونان منذ الأزل، ضمن ما أطلقوا عليه بنظرية المحاكاة، وقد تأسس هذا المنهج على أنقاض النظرية الجدلية الماركسية، التي ترى بأن معظم الأنظمة السياسية، والقيم الاجتماعية، والأديان، هي انعكاس للواقع الطبقي والمادي المعاش. وتستند الفلسفة الماركسية على ثلاثة قوانين رئيسية، هي: قانون نفي النفي ووحدة صراع المتناقضات ، وتحول الكم إلى الكيف؛ أما قاعدة نفي النفي فهي مكملة لباقي قوانين الجدل؛ حيث إن الصراع أو التفاعل يؤدي للنفي، ويقضي التفكير الجدلي بأن المتناقضات التي تؤثر في بعضها تكون في دائرة واحدة وبأن المتناقضات تكون في وحدة واحدة، ومن ذلك العامل وصاحب المصنع اللذان تحكمهما وحدة صراع هي "المعمل"، والأب والابن في وحدة صراع "المنزل"، الفلاح والإقطاعي في وحدة صراع "الأرض". 

إن العلاقة بين الأدب والمجتمع علاقة جذرية متماسكة؛ إذ يَعِزُّ علينا أن نتصور فنا من الفنون نثرا كان أو نظما خارجا عن البيئة التي ظهر فيها؛ وإلا فمن أين يستمد الأديب انفاعله المبدع؟ أليس من تجاربه الحياتية؟ فالفنان ابن بيئته منها ينهل وفيها يشع. وهذا لا ينفي ما للأدباء من طباع وحيواة خاصة تميز بعضهم عن البعض في أساليب التفكير وطرائق التعبير.

"الشعر ديوان العرب"، مقولة تردد صداها في كتب النقد العربي، ما يبين أن الأدب العربي منذ الجاهلية مثل حياة المجتمع بما تحمله من قيم ومعتقدات وعادات؛ تحدث في الشجاعة، والصلح، والمفاخر، والحماسات، والمكارم...

المنهج الاجتماعي إذن، هو المنهج الذي يُعنى بدراسة العمل الأدبي في علاقته بالظواهر الاجتماعية، يقول شوقي ضيف: "... وينبغي أن نلاحظ أن من يدرسون الأدب دراسة اجتماعية لا يريدون أن يتبينوا فيه انعكاسات المجتمع فحسب، فتلك مسألة بديهية، إنما يريدون أن يتبينوا ما في بيئة الأديب من ظواهر اجتماعية ومدى تأثيرها في أدبه محاولين النفوذ إلى معرفة طبقة الأديب الاجتماعية التي ينتمي إليها وما عاش فيه من أوضاع اقتصادية ومدى استجابته لموقف طبقته وصدوره عنها في آثاره..." (البحث الأدبي: طبيعته، مناهجه، أصوله، مصادره: شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، ط7، دت، ص ١٠١).

 

أولا: نشأة المنهج الاجتماعي:

 

يمكن تلمس البوادر النقدية الأولى للعلاقة بين الأدب والمجتمع في كتابات حكماء اليونان القدماء، ونخص بالذكر نظرية المحاكاة مع أفلاطون وأرسطو على اختلاف التصور بينهما؛ فحيث يرى أفلاطون أن الأدب مجرد محاكاة للواقع بعيدا عن الحقيقة المثالية، ما بإمكانه أن يفسد الأفهام ويضعفها، وهو بذلك لا ينفي علاقة الفن بحقائق الحياة. يذهب أرسطو إلى أبعد من ذلك عندما يقر بأن الأديب لا يحاكي ما هو كائن فحسب بل يحاكي ما يمكن أن يكون، أو ما ينبغي أن يكون بالضرورة أو الاحتمال، ويكون الفن بذلك تتمة لما يشوب الطبيعة من نقص.

وقد تأثر بهذه النظرية عديد من علماء وفلاسفة المسلمين، أمثال "الجاحظ"، و"الفارابي"، و"ابن سينا"، و"ابن رشد"... وغيرهم. لكنه ـ مصطلح المحاكاة ـ لم يصل مرحلة النضج والتنظير إلا في القرنين التاسع عشر والعشرين، مع نظرية الانعكاس التي استندت في تفسير الأدب نشأة وماهية ووظيفة إلى الفلسفة الواقعية المادية التي ترى بأن الوجود الاجتماعي أسبق في الظهور من وجود الوعي، وقد تميزت هذه النظرية عن سائر النظريات بكونها لم تركز على جانب واحد من جوانب الظاهرة الأدبية، إذ ركزت نظرية المحاكاة على المتلقي، واهتمت نظرية التعبير بالمبدع، ونظرية الخلق بالعمل الأدبي، أما نظرية الانعكاس فقد عرضت لهذه الجوانب كلها {المبدع، والإبداع، والمتلقي}.

ويتفق معظم الباحثين على أن الإرهاصات الأولى للمنهج الاجتماعي في دراسة الأدب ونقده بدأت منهجيا منذ أن أصدرت الكاتبة والروائية الفرنسية مدام دوستايل كتابها "الأدب في علاقته بالأنظمة الاجتماعية" عام ثمان مائة وألف (1800م)، و"عن ألمانيا" عام ثلاثة عشر وثمان مائة وألف (1813م)؛ إذ تتحدث عن دور عامل الهوية القومية وعلاقته بالوسط الاجتماعي وتأثيراتهما في الابداع، والذوق الفني.

وتقر أن الأدب يتغير بتغير المجتمعات، ويتطور بتطور الأوضاع الاجتماعية، من هنا رأت أنه من الضروري بعد قيام الثورة الفرنسية عام تسع وثمانين وسبع مائة وألف (1789م)، ظهور أدب جديد يعبِّر عن مجتمع ما بعد الثورة ويختلف كثيرا عن أدب ما قبل الثورة، وصار لزاما على النقد أن يتسائل عن ماذا يكتب الأدباء؟ عوض السؤال عن كيف يكتبون؟

بعد مدام دوستايل ظهر الناقد هيبوليت تين (1828م ـ 1893م)، الذي يرى أن العمل الأدبي ليس مجرد نوع من عبث الخيال الفردي ولكنه نقل للتقاليد والحقائق والانفعالات المحددة والقابلة للتمحيص. وقد استند في نظريته إلى ثلاثية مشهورة هي {البيئة أو الوسط، الجنس أو العرق، اللحظة التاريخية أو العصر}.

وما يؤخذ على هذه الآراء أنها لم تتوصل إلى إدراك علاقة التأثير والتأثر بين الأدب والمجتمع أو إلى إدراك تناقضات المجتمع وعلاقاته، إلى أن ظهر عدد من أعلام النقد الاجتماعي في روسيا أمثال بيلنسكي وتلامذه الذين دعوا إلى أن يكون الأدب انعكاسا للحياة الاجتماعية ناقلا الواقع بأمانة، دون أي تزييف.

 
ثانيا: تطور المنهج الاجتماعي
 1ـ المدرسة الجدلية:

كان للمفكر المادي "كارل ماركس"، دورا مهما في تطوير المنهج الاجتماعي، وإكسابه إطارا منهجيا وشكلا فكريا جديدا قائما على كون الأدب بنية فوقية تعكس الواقع الاجتماعي والاقتصادي للبنية التحتية، وكل تغيير في قوى الإنتاج المادية يمكن أن يحدث أثرا بليغا في العلاقات والنظم الفكرية. واعتمادا على هذه العلاقة بلور ماركس وأتباعه تصورهم لثنائية الشكل/المضمون، ففي نظرهم أن تغيير العلاقات بين القوى الاقتصادية في المجتمع هو الذي يحدد شكل البنية الفوقية بما في ذلك الشكل الأدبي، ومن هنا فإن الشكل يتغير بتغير المضمون، وكل مضمون يقتضي شكلا خاصا به. والحق أن هذا التلازم بين الفن والقاعدة المادية للمجتمع، قد لا يصدق في بعض الأحيان، وفي تاريخ الأدب العربي ما يؤيد ذلك؛ حيث يلاحظ أن العصر العباسي الثاني كان عصر التفكك والصراعات السياسية، ولم يمنع من وجود إبداع أدبي رائع.

 
2ـ نظرية الانعكاس "جورج لوكاتش" و " لوسيان غولدمان":

تقوم نظرية لوكاتش على اعتبار المعرفة الحقة ليست وليدة الانطباعات الأولية للحس، وإنما هي انعكاس للواقع الموضوعي الأكثر عمقا وشمولا مما هو موجود في مظهر هذا الواقع؛ " تبقى الرواية (...) راسخة الجذور في خصوصية التجربة، إنها بوصفها نوعا أدبيا ملحميا لا تستطيع أبدا أن تتخلى عن صلتها بالواقع التجريبي، الذي هو جزء متأصل من طبيعة شكلها الخاص بها. ولكنها تُقصر في زمن الاغتراب على تمثيل هذا الواقع على أنه غير كامل، يسعى باطراد للتحرك إلى ما وراء الحدود التي تقيده، ويعاني باستمرار من عدم كفاية حجمه وشكله، ويستاء منه " إن ما يكون في الرواية ليس كلية الحياة، بل الصلة، والوضع الصالح أو الخاطئ للكاتب الذي يدخل المشهد، كذات تجريبية، في منزلته التامة، بل وفي كامل محدوديته أيضا كمجرد مخلوق، تجاه هذه الكلية"، وهكذا فإن موضوع الرواية محدود بالضرورة بالفرد، وبالتجربة المحبطة لهذا الفرد نتيجة عدم قدرته على أن يكتسب أبعادا شاملة..." (نظرية الرواية: جورج لوكاتش، بقلم بول دومان: ترجمة عبد النبي اصطيف، دط، دت، ص27).

قامت آراء لوكاتش على تحليل العلاقة بين المجتمع والأدب، باعتباره انعكاسا وتمثيلا للحياة، فقدم بذلك دراسات ربط فيها بين نشأة الجنس الأدبي وتطوره من جهة، وبين طبيعة الحياة الاجتماعية والثقافية لمجتمع ما من جهة ثانية، وفق ما يسمى بــ "سوسيولوجيا الأجناس الأدبية"، حيث درس الطبيعة ونشأة الرواية المقترنة بنشأة حركة الرأسمالية العالمية وصعود البرجوازية الغربية، فتوصل من ذلك إلى أن العامل الجوهري في ازدهار الرواية هو شدة التناقضات في المجتمع البرجوازي، وعليه ففهم الرواية لا يتحقق إلا بفهم الصراعات القائمة على صعيد المجتمع البرجوازي، ويلزم على الباحث أن يجعل هذه العوامل نصب عينيه أثناء التحليل ( النقد الاجتماعي للأدب نشأته وتطوره: آزداه منتظري، ومحمد خقاني، ومنصوره زركوب، ص 166، 167.). وجدير بالذكر ان الابداع الفني حسب لوكاتش لا يخضع للشروط الأدبية فحسب، بل يستند إلى شكل حال تاريخية محددة يقوم الكاتب بالتعبير عنها ومنحها شكلا فنيا يتوافق معها (النقد الاجتماعي للأدب نشأته وتطوره: ص 167.).

ركز " لوسيان غولدمان " على مبادئ لوكاتش وطورها، متوصلا بذلك إلى ما اصطلح عليه بــ "علم اجتماع الإبداع الأدبي"، بالاستناد إلى جملة من المبادئ العميقة التي يمكن إجمالها في:

أـ الأدب ليس إنتاجا فرديا، ولا يمكن التعامل معه باعتباره تعبيرا عن وجهة نظر شخصية. بل هو تعبير عن وعي طبقي محدد، ومعناه أن الأديب عندما يكتب فإنه يعبر عن وجهة نظر تحكمها عمليات الوعي والضمير الاجتماعي، وجودة فنه تتحدد بمقدار تجسيد المجتمع.

 

ب ـ كل عمل أدبي تحكمه بنية دلالية كلية لا يمكن الوقوف عليها إلا بعد الانتهاء من قراءته.

ج ـ النص الأدبي بنية متولدة عن بنية أشمل وأعمق هي البنية الاجتماعية للجماعة التي يمثلها المبدع، ودراسة النص الأدبي تستهدف الكشف عن مدى تجسيده للبنية الفكرية للجماعة. وكل عمل أدبي يتضمن "رؤية للعالم". انطلاقا من هذا المنظور أسس غولدمان منهجه "التوليدي" أو "التكويني"، وقام بإجراء عدد من الدراسات تخص الأجناس الأدبية، وبالخصوص جنس الرواية: "من أجل تحليل سوسيولوجي للرواية".

ومرد هذا الاهتمام البالغ بالرواية مقابل باقي الأجناس الأدبية، كونها (الرواية) أكثر تمثيلا للواقع الاجتماعي.

 
3: علم اجتماع النص "بيير زيما":
 

نتج هذا العلم إثر تطور مختلف المناهج المومأ إليها سابقا، ويقوم على اللغة باعتبارها واسطة الأدب والحياة، فهي مركز التحليل النقدي في الأعمال الأدبية. وإذا كانت المناهج الاجتماعية {التجريبي، والبنيوي التكويني} ركزت في الغالب على المضمون في العمل الأدبي، فإن منهج سوسيولوجيا النص الأدبي حاول الافادة من الأبحاث اللسانية والبنيوية المعاصرة، فهو يهتم ببنية النص اللغوية والرمزية، إلى جانب المحتوى المتجسد في الوحدات اللغوية.

 
ثالثا: علاقة الأدب بالمجتمع: من خلال مؤلف "أديب" لطه حسين
 

يؤكد طه حسين منذ مطلع المؤلف أن واقعية الأدب واجتماعيته تتجلى في كون الأديب "لا يعيش لنفسه وإنما يعيش للناس" (أديب: طه حسين، مكتبة الأسرة برعاية السيدة سوزان مبارك (الأعمال الإبداعية)، دط، دت، ص11.). وفي هذه العبارة ما يقر العلاقة المتينة التي تربط الأدب بالمجتمع، فكون الأديب يعيش للغير معناه أنه يعبر بأصواتهم، ويرسم بأخيلتهم... وهو ما ذهب إليه جورج لوكاتش، ولوسيان غولدمان من قبل.

وإذا أنت قرأت الرواية اتضح لك منها أن الكاتب يروم رصد العلاقات التي جمعته بالشخص الأديب سواء داخل الديار المصرية، أو خارجها وهي في حد ذاتها علاقات اجتماعية يغلب عليها الجانب المعرفي، إنها تحاول (الرواية) أن تماثل لنا حياة أشخاص داخل الفصل وخارجه وما يعتورها من جدال فكري عميق؛ "... وكان يقول لي: هون عليك من هذا الحرص على المحاضرات ولا تتهالك عليها هذا التهالك، فهي أقل غناء مما تظن وخير لك أن تقرأ من أن تسمع. فلما ألح عليَّ في ذلك سألته: وإذا كنت ترى هذا الرأي فما اختلافك إلى الجامعة؟ وما استماعك للمحاضرات؟ وما تهويشك علينا بصوتك العالي وحديثك الذي لا ينقطع؟ فضحك وقال: الجامعة شيء جديد أحب أن أراه، وقد سئمت القهوة، ولو لم يكن في الجامعة إلا أنت وأصحابك هؤلاء الذين تتفتح عقولهم للعلم الحديث فيتلقون ما يسمعون في كلف ونهم مصدرهما الجهل العميق، لكان هذا كافيا لأن أختلف إلى الجامعة وأستمع للمحاضرات..." (أديب: طه حسين، ص18).

ثم يأخذ الكاتب في وصف صفات القوم وعاداتهم وعلاقاتهم، والأحياء التي جمعتهم، يقول: "... كان الحي رشيقا أنيقا، وكان الجو سمحا طليقا، وكانت الحركات والأصوات من حولي لا تخلو من شدة وعنف، ولكن فيها ظرفا وتأنقا، حتى إذا بلغنا شارع محمد علي ضاقت الطريق، واشتد أمامنا الزحام، وكثر من حولنا الصياح (...)، وانتشرت في الجو روائح ثقيلة تمتاز منها روائح البصل والثوم وقد أخذت تعمل فيهما النار (...)، وإذا نحن في حارة ضيقة هادئة قد ثقل فيها الهواء وفسد فيها الجو وكثرت في أرضيها الأخاديد. فالعربة تقفز بنا قفزا، والسائق يهز سوطه في الهواء (...)، ويثير ذلك بعض الصبيان فيخرجون من بيوتهم أو من أوكارهم يعبثون بالسائق..." (أديب: طه حسين: ص20ـ21)؛ إنه يروم وصف المجتمع المصري، وما يتخبط فيه من عشوائية إبان الستينات والسبعينات..

خاتمة:

يمكن القول إن العمل الأدبي كيف ما كانت طبيعته، لا يعدو أن يكون صورة من مجتمع، وإنما يختلف الأدباء في طرق التصوير، ومقاربة الظاهرة. وهذا طبيعي؛ لأن درجة التأثر بالأشياء ووعيها تختلف بين بني البشر، والمتأمل في "أديب" لطه حسين يستشف أن الغالب في الوصف هو المحيط الفكري والمعرفي؛ لكونه يهم الكاتب أكثر من غيره.

الأربعاء، 19 نوفمبر 2014


وجع الزمان 

حسناء الجراتلي

    من قال إن الدنيا ستغير مجرى حياة هذا الشخص منذ حضوره إلى الدنيا وهو يعيش حالة من الهم والغم. تزوجت والدته من رجل غريب عن قبيلتها وأصلها وأنجبت منه هذا الشخص فوقع ما وقع، طلقت أمه وتركته لأمها وتزوجت مرة أخرى لتنسى كلام قبيلتها عليها والعيب الذي ستتحمله عاتلتها بسببها رغم أن زواجها من هذا الشخص حلال، تزوجت وتركت هذا المسكين لأبويها ليعيش معهم في الفقر.

   كبر المسكين، درس قليلا وعانى كثيرا لم يكن يظن أن الحياة بهذه القساوة. مرت بضعة سنين وتوفي الأب الجد. مرت بضع سنين عم القهر والحزن بيتهم، مرت سنين درس هذا المسكين حتى الصف الخامس وعندها سيتلقى الإهانة أمام زملائه أن ليس له الحق في إتمام الدراسة لغياب حالته المدنية. آنذاك قرر مغادرة المدرسة ليتحمل فيما بعد مسؤولية أكبر منه بكثير، فقد صار هو ذاته رب الأسرة. فقد تعذب كثيرا ليفوز ببعض الريالات التي هي مصدر شقائه وتعبه. فقد كان اليوم يمر عليه كالسنين من شدة المعاناة والفقر، لكن كان الصبر دائما هو مبدأه الأول والأساس في الحياة، وصلاته التي لايفارقها وذكر الله تعالى.

   أخذت منه طفولته، ولكن الله كان معه دائما أينما كان، فلم يحس يوما بالبؤس تجاه الحياة، والسنين تمر، فجاء اليوم الذي سيصبح فيه للمسكين إعتراف، والذي سيصير فيه مغربيا. ولكن لم يكن في حقه أن يعيش بين أحضان أبويه ويحس بالحنان كما كان يتمنى. السنين تمر وهذا الشخص يكبر ويكتب عليه القدر أن يعاني في هذه الحياة، والعذاب بدأ يزول، ليقبل المسكين على حياة جديدة بدأت بحصوله على رخصة سياقة واشتغاله في عمل سياحي، كان هو السبب في نسيانه بعض الهموم، بفضل معرفته للأشخاص، والسفر بعيدا، والتجول في بلاد المغرب، وتعلمه بعض اللغات التي لم يكن على علم بها قبل هذا الوقت. ولكن التعب لازال يلاحقه، وربه دائما معه.

   وصل العشرين من عمره وتزوج ابنت خالته التي عاشت هي الأخرى سنين من القهر والمعاناة، بدأت بمنعها من التدريس، بكت وصدمت، لكن تقبلت هذا القرار، عاشت المرارة والقهر والصبر دائما معهما، بعد مرور بضع سنين من زواجهما أنجبا فتاة غاية في الجمال كانت أول فرحتهما، اسمها مريم. سافر الأب من أجل توفير لقمة العيش لهما وتحقيق سعادتهما. ومع مرور ثلاث سنوات أنجبا طفلا غاية في الجمال، اسمه أحمد، عاش أربعة أشهر فأخذه الله قبل أن يراه الأب المسكين، ويعود الحزن من جديد ولكن الصبر هو سلاحهما دائما. بعد سنتين من الحزن رزقا فتاة اسمها حسناء فرحا بها كثيرا، فيعاني الأب  من جديد بحثا عن سعادة أبنائه.

   تعبت الزوجة من مشاكل الجدة، رحلوا من مدينة إلى أخرى بحثا عن الراحة، وفي مدينة العرائش سيرزقا بفتاة هي الفرحة الثالثة في حياتهما أسموها ليلى، عاشوا بهناء في هذه المدينة، وبعدها سيعودوا إلى موظنهم بحياة جديدة، الأب يبحث عن سعادة أبنائه، والأم تربي أحسن التربية... مرة أخرى سيسافر الأب إلى مدينة مراكش الحمراء، أجمل مدن المغرب لما فيها من مآثر ومناظر تخلب اللب، فكانت هي موطنهم الجديد ومكان استقرارهم، وعما قريب سيتعرف أفراد الأسرة على جدهم وأعمامهم، ولكن دون جدوة. ومع مرور أربع سنوات ستولد فرحة رابعة اسمها سومية طفلة جميلة.

   علم الكبار واهتم بالصغار، وبعد ست سنوات سيرزق بمثيل القمر اسمها آية، البراءة تعم وجهها... وبعد أن تحققت بعض أحلامه حمد الله  وشكره على الدرية الصالحة التي رزقه، وترحم على ما أخذ منه.

 

الثلاثاء، 18 نوفمبر 2014



القراءة التوجيهية لمؤلف «اللص والكلاب»

للفنان والمبدع والروائي المصري الكبير: " نجيب محفوظ " 

ذ. حميد المساوي
 
أولا: العتبات الخارجية:

يتضمن الغلاف الأممي للمؤلف مجموعة من المؤشرات التي يمكن للقارئ المتأمل الاستفادة منها في قراءة وتحليل مكونات المؤلف وسبر أغواره، ويمكن تحديدها على الشكل التالي:

 

                          1ـ العنوان:

يعتبر العنوان مفتاح كل عمل، أدبيا كان أو غير أدبي لذلك تقتضي الدراسة في مستواها الأول الوقوف عنده، من جهة علاقته المباشرة بالقضية المتضمنة في متن الكتاب، فإذا عدنا على سبيل المثال إلى مؤلف نجيب محفوظ هذا، نجده قد تضمن كلمتين دالتين " اللص ،الكلاب"، يجمع بينهما حرف عطف "الواو"، ما يدل على اتصالهما في الآن. ويقترن المدلول الظاهر لكلمة اللص، في الغالب الأعم بالسرقة، والنهب، والخيانة، والغدر، بخلاف كلمة الكلاب التي تدل على الوفاء والصبر، وإذا ما قارنا العنوان بمتن المؤلف سنجد أن الكلب خرج عن معناه الأصلي، حيث أصبح يحمل سمات إنسانية، إذ قد يقصد بالكلاب في المؤلف كل من خان شخص سعيد مهران (اللص)، ومنهم (الزوجة نبوية/ البنت سناء/ الصديق رؤوف علوان/ عليش...). ويرمز اللص في المؤلف إلى الوفاء والإخلاص.

ما يلاحظ على العنوان أيضا أنه كتب بلون أبيض داكن، أسفل صفحة الغلاف، واللون الأبيض غالبا ما يدل على الصفاء والود والسلام، الأمر الذي يجعل العنوان في مفارقة واضحة باللون الذي كتب به، ويجعل القارئ في متاهة، وفوضى، وتساؤل عن طبيعة القضية التي يمكن أن يتضمنها مؤلف بهذا العنوان.

 

                     2ـ صاحب المؤلف:

نجيب محفوظ، كاتب ومؤلف مصري مشهور، ولد سنة 1912م في أسرة متوسطة، درس الفلسفة بكلية الآداب وتخرج منها سنة 1934م. حصل على العديد من الجوائز أهمها جائزة نوبل للآداب سنة 1988م، بفعل باعه الطويل، وقدرته الفائقة في الإبداع الروائي. وقد صدر له في هذا المجال العديد من المؤلفات، أهمها: همس الجنون، بداية ونهاية، قصر الشوك، ثرثرة فوق النيل، أولاد حارتنا، واللص والكلاب...

                     3ـ جنس المؤلف:

 

بالاستناد إلى طبيعة الغلاف، وحجم المتن المتضمن، يمكن إدراج هذا الكتاب ضمن الفن الروائي، والرواية باعتبارها نوع من أنواع الفن القصصي، فلا بد من أن يكون لها بناء فني محكم مثل سائر أنواع الفن القصصي الأخرى (السير/ القصص/ الأخبار/ الرسائل)، والغالب على فن الرواية هو هيمنة عنصر التخييل، مما يجعل القارئ أمام إمكانيات متعدة للتأويل.

يجمع أهل الأدب على فن الرواية اقترن في بداياته بظهور المدينة، لما تتيحه هذه الأخيرة من إمكانيات للإبداع بفعل تنوع وتعدد أحداثها.

ومن رواد فن الرواية في العالم العربي، نذكر: نجيب محفوظ، مبارك ربيع، طه حسين، عبد الله العروي...

                      الغلاف:
 
أـ الغلاف الأمامي:

 يتخلل الغلاف دليل أيقوني، عبارة عن لوحة فنية حافلة بمجموعة من المكونات، حيث يحتل اللون الأزرق مساحة كبرى في الغلاف، وهو رمز التأمل، وبعد النظر، تتخلل أعلى الصورة يدا رجل متوار، يصوب مسدسا في الفراغ، ويتضح أنه يرتدي لباسا أسودا أنيقا، ويفترض أن يكون هذا الشخص هو سعيد مهران، كما يفترض أن يكون شخصا آخر، وينجم التفاوت في لباس الشخص بين الأبيض والأسود إلى تفاوت في الإحساس والإنفعال النفسي، تحتل يدا الشخص مكانا هاما في صورة الغلاف، ما قد يفيد أنه ذا سلطة. خلف اليدين توجد بنايات متعددة تظهر عليها سمات القدم ويظهر أنها أحياء شعبية، وقد تكون الأمكنة التي دارت فيها أحداث الرواية. بين يدي الشخص يوجد كلبان أسودان يلهتان، وقد يقصد بهما في هذه الحالة كل من خان سعيد مهران بما فيهم زوجه وابنته، والكلب الأسود غالبا ما يرمز إلى الشؤم والعدوانية. يتخلل اللوحة إطاران أحدهما بلون أسود والآخر بلون أخضر مما قد يفيد أن هناك أمل على الرغم من كثرة المعاناة والمأساة. أسفل اللوحة وفي الجانب الأيمن منها توجد امرأة فاتنة، ترتدي لباس شفافا، وكثير من الحلي والمجوهرات، تتخف خلف الجدران والبنايات، بادية على عينيها أمارة الغدر والخيانة، ومن المفترض أن تكون زوج سعيد مهران نبوية.

 
ب ـ الغلاف الخلفي:
 

 يلاحظ على الغلاف الخلفي غياب أي مؤشر يمكن أن يساعد القارئ على معرفة فحوى هذا العمل الروائي. الأمر الذي يطرح أمامه جملة من الفرضيات، والتصورات.

 
ثانيا: العتبات الداخلية:
 

قسم المؤلف كتابه إلى ثمانية عشر فصلا؛ الملاحظ عليها أنها جاءت خالية من العنونة، الأمر الذي يجعل القارئ في حيرة من أمره، ويفسح أمامه المجال الأوفر للتأويل. والملاحظ على هذه الفصول أنها تكاد تتساوى من حيث الحجم، ما يفصح عن تجربة متميزة في الإبداع الروائي، تتخلل هذه الفصول العديد من اللوحات الفنية التي لها علاقة مباشرة بموضوع كل فصل، والتي لها دور هام في فهم الموضوع.