الاثنين، 18 يوليو 2011


النحو التوليدي بين العالمين : الغربي والعربي
                   المساوي
مقدمة:
مما لا شك فيه أن مجيء النحو التوليدي كان سببا في حل مجموعة من المشاكل طالت التراث اللساني؛ فقد انبثق في سياق ما نعت بالثورة المعرفية الإدراكية لسنوات الخمسينيات، وساهم في تطوير هذه المعرفة التي أخذت تهتم بالآليات الداخلية للفكر والنشاط الإنسانيين، واعتبر اللغة – التي هي تعبير عن فكر الإنسان – خاصية بشرية تميزه عن باقي الكائنات الأخرى، والتي تستلزم – أي اللغة – استعمالا لا متناهيا لمجموعة متناهية من الوسائل. وقد نجح هذا البرنامج في فتح آفاق جديدة في مجال البحث اللساني الحديث، وساهم في القيام بأبحاث هامة تخص لغات مختلفة ومتنوعة، ومنها اللغة العربية. أصول هذا العلم؟ قواعده؟ مراحل تطوره؟ كيف تلقاه العرب؟
كلها أسئلة سنحاول الإجابة عنها قدر المستطاع إن شاء الله.

         Ι- النحو التوليدي في منشئه:
في مرحلة من الزمن، وبعد ثورات متعددة، آلت بفشل المنهج البنيوي الذي شكلت بوادره مع العالم اللساني فيرديناند ذي سوسير وثنائيته المشهورة اللغة/ الكلام (الدياكرونية – السانكرونية)، مما ساهم في انبثاق اتجاهين رئيسيين هما اتجاه الشكلانيين الروس ومن رواده جاكوبسون وتروبتسكوي وكتابه المشهور "باب في الفنولوجيا"، وقد عمل هذا الاتجاه على إدخال السياق والرصيد المعرفي للمتلقي، والخطاب بالمعنى الذي يتعدى الجملة. إضافة إلى مساهمة الوظائف الست التي قدمها جاكوبسون للغة في بلورة نظرية الاتصال، التي هي عماد المنهج الذي تتبناه هذه الدراسة في تحليل الخطاب السياسي.
أما الاتجاه الثاني فهو البنيوية التوليدية: Structuralisme génétique، ومن أبرز روادها الناقد الاجتماعي "جولدمان" (1970-1913)، وهو أحد أعلام المدرسة الهجلية الجديدة في النقد الأدبي، وقد اشترك مع أستاذه جان بياجيه (1980-1986)؛ العالم النفسي السويسري في الأخذ بمفاهيم أساسية، منها مفهوم البنية الدالة، مفهوم الوحدة الشاملة، مفهوم الوعي الممكن. لذلك يهتم جولدمان  بدراسة بنية العمل الأدبي دراسة تكشف عن الدرجة التي يجسد بها هذا العمل بنية الفكر عند  طبقة أو مجموعة اجتماعية، ينتمي  إليها مبدع العمل.
 وعلى أنقاض الاتجاه البنيوي الجولدماني نشأ النحو التوليدي Générative grammaire، كنموذج جديد يجيب عن الأسئلة العالقة، وينحو بالبحث اللساني منحى مغايرا، حيث "يرى تشومسكي أن دراسة اللسان مازالت قاصرة على المشاهدة والوصف، لأنها لن تصبح علما إلا متى ارتقت إلى التفسير أي انتقلت من ماذا؟ إلى لماذا..."[1]، والتفسير هنا يركز على اللغة من داخلها وليس من خارجها. معنى هذا أن النحو هو مجموع القواعد المختزنة في القدرة لتوليد ما لا نهاية له من الجمل. فمنذ بروز النحو التوليدي إلى الوجود مع كتاب (البنى التركيبية 1957)، تعددت النماذج واتجهت نحو التقليص من عدد التحويلات ومن أدوارها بغية ضبطها، علميا ومنهجيا، في الربط بين البنيتين السطحية والعميقة. "لقد انصب اهتمام التوليديين على صياغة قواعد عامة يمكن أن تشمل سائر اللغات، وصياغة مثل تلك القواعد تفرض الاستناد إلى نماذج مفترضة مستنبطة وفقا لمعايير منطقية ورياضية (ونفسية)"[2].
وقد آن لنا الآن أن نتساءل عن ما هي الإشكالات التي شغلت المشروع التوليدي منذ بدئه وحاول الإجابة عليها؟
"يمكن رد اللسانيات التوليدية إلى سؤالين مركزيين يرجعان معا إلى محور أساسي هو معرفة اللغة:
السؤال الأول: كيف يمكن للكائنات البشرية أن تصل إلى معارف لغوية متعددة على الرغم من اتصالها المحدود بالعالم؟
السؤال الثاني: ماذا يمكن لدراسة اللغة أن تفيد في فهم طبيعة المعرفة البشرية؟"
ببساطة عندما انطلق المشروع التشومسكاوي كان غرضه إنتاج فلسفة في المعرفة الإنسانية تعطي للكائن البشري وجوده الحق كإنسان مفكر، عاقل، وليس كآلة تتشكل من مثيرات سلوكية.
لذا نجد في كتابات رائد التوليدية تحاليل  فلسفية لمصادر المعرفة اليونانية، واستلهامه من العقلانية الديكارتية وقراءته النقدية لتجريبية هيوم ونسبية كانط.
بمعنى أن تشومسكي قبل أن يؤسس نظريته اللغوية، عمل على الاستفادة من التراث الفلسفي والعلمي في صياغة نظرية في المعرفة الإنسانية التي تأسست على المبدأ الكلاسيكي: اللغة مرآة للفكر، حيث يكون للجهاز اللساني دور فعال في الكشف على المبادئ التجريدية المنظمة لعملية المعرفة "وبهذا يكون انشغال التوليدي باللغة انشغالا  ذهنيا مفهوميا بالأساس وليس انشغالا بالتمظهرات السلوكية أو المنتوج"[3]، أي أن الإشكال التوليدي قد تمحور حول معرفة اللغة (طبيعتها/ مصدرها/كيفية استعمالها).
بيد "أن التغير الذي طبع النظرية اللسانية مع تشومسكي لا يمكن أن يحجب عنا إفاداته من مدارس لسانية سابقة كالتوزيعية Distributionnalisme" ممثلة في ما قدمه هاريس Z. S. Harris، الذي اتجه اتجاها مباينا لاتجاه أستاذه بلومفيلد Bloomfield وخصوصا ما اعتمده في وصف اللغة من طرائق تحويلية. ونجد  من لا يتوانى في ربط النظرية التوليدية بالبنيوية، ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلا أن بياجي يطلق على الاتجاه التوليدي – البنيوية التحويلية – في إشارة واضحة إلى العلاقة بين الاتجاهين"[4].
وقبل الخوض في الحديث عن هذا المنهج في الثقافة العربية سنسعى بصورة موجزة إلى عرض الخطوط الأساسية لنظرية القواعد التوليدية والتحويلية ثم مراحل تطور هذا العلم؟


1- الخطوط الأساسية لنظرية القواعد التوليدية والتحويلية:

أ- الكفاية اللغوية والأداء الكلامي:   
في إطار النظرية الألسنية التوليدية والتحويلية، نسمي المقدرة على إنتاج الجمل وتفهمها في عملية تكلم اللغة، بالكفاية اللغوية. ونميز بين الكفاية اللغوية وبين ما نسميه  بالأداء الكلامي. فالكفاية اللغوية هي المعرفة الضمنية باللغة، في حين أن الأداء الكلامي هو الاستعمال الآني للغة ضمن سياق معين، وقد أشار ابن خلدون في المقدمة، ص: 1081 إلى هذه الملكة عندما يقول: "إن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة، فهو علم بكيفية لا نفس كيفية".
ب- القواعد:
بصفة عامة هي القواعد التي تجعل من الإنسان قادرا على  إنتاج جمل لغته وفهمها، ثم الإدلاء بأحكام عليها من حيث الخطأ والصواب في التركيب، وهو ما يسمى  بالحدس اللغوي الخاص بمتكلم اللغة.
ج- الجمل الأصولية:
ويقصد بها تلك الجمل الصحيحة والموافقة للأصول اللغوية، وهي الجمل الناجمة عن اتباع القواعد التوليدية والتحويلية.
مثلا: جملة – الرجل إلى جاء المدينة ï لا تركيب ولا معنى، والصواب هو جاء الرجل إلى المدينة (فعل، اسم، اسم...).
جملة – درست السيارة التفاحة ï وجود التركيب (فعل، فاعل، مفعول به) وغياب المعنى
2- مراحل تطور النحو التوليدي:
"تجدر الإشارة إلى أن اللسانيات التوليدية لم تظهر دفعة واحدة، بل عرفت تطورا منذ الفرضيات الأولى والمناقشات والمناظرات التي لم تتوقف منذ صدور النموذج التأسيسي (سنة 1957)، إلى يومنا هذا كما يظهر من خلال مراحل تطور هذه اللسانيات"[5].
ويمكن حصرها في خمس مستويات؛ يتجلى الأول في مؤلف "البنى التركيبية  1957" حيث حصر تشومسكي مجال دراسته في التركيب (Syntaxe). لأنه يبحث عن نظرية في شكل آلة تحليلية تدرس الأنحاء الخاصة بطريقة تجريدية  دون الرجوع إلى لغات خاصة وباستقلال عن المعنى (ما يهم هو التركيب فقط).
أما المستوى الثاني، فيتجلى في النموذج المعيار (سنة 1965)، الذي أعاد تشومسكي في سياقه تأكيد الأصناف الأولية للنحو التوليدي بطريقة واضحة تتمثل في اقتراح صياغة واضحة للسيرورات "الإبداعية" للغة. وهنا نتحدث عن ثنائية: القدرة/الإنجاز، ومفهوم البنية العميقة، والمكون الدلالي التأويلي.
ويتمثل المستوى الثالث من مستويات تطور النحو التوليدي في الأعمال التي قام بها بعض الباحثين في مجال الدلالة، وخاصة متبني الدلالة التوليدية من أمثال: لاكوف Lakoff، وماكولي Makawley، وفيلمور Fillmore... ويعني ذلك أن التمثيل الدلالي يحدد بواسطة البنية العميقة والبنية السطحية.
أما المستوى الرابع فيتمثل في الأعمال التي قام بها تشومسكي في السبعينات (1977) من أجل ضبط التحويلات  عن طريق ضبطها بمجموعة من الشروط نظرا لقوتها التفسيرية ثم لتبسيط المكون التحويلي، وخامس هذه المستويات يتمثل في الأعمال التي طورها تشومسكي ضمن ما يسمى بنظرية الربط  العاملي Government and binding theory، التي ابتدأت مع نمو المبادئ والوسائط الذي اقترحه تشومسكي (سنة 1981)، في إطار نظرية الربط العاملي التي امتازت بالطابع القالبي Modular، الذي حد  من ظاهرة تعدد النماذج  اللغوية وتشتت  وسائل  صياغة النتائج اللسانية وإبلاغها، بالإضافة إلى تسهيل المقارنة بين النظريات.
II- النحو التوليدي والثقافة العربية:
إن مجال اهتمام النظرية التوليدية في منشأها – كما سلف – هو وصف اللغة وتفسيرها تفسيرا داخليا، يراعي علاقة الأصوات اللغوية بالدلالات الفكرية. لذلك انشد كثير من الباحثين اللسانيين إلى هذا التوجه الجديد من شتى الثقافات. فلم يجد العالم العربي بدا من النهل من هذه النظرية، ومحاولة تطبيقها على معطيات اللغة العربية. وكان ذلك في بداية السبعينيات من القرن العشرين.
غير أننا نجد أنفسنا أمام مفارقة عويصة، تخص واقع النظرية التوليدية داخل قواعد النحو العربي القديم. فـ "الهدف الأول في وضع كتب اللغة أيام سيبويه هدف تربوي تعليمي، نفهم بتعبير "المستقيم الحسن" – الكلام الذي يتلاءم مع أصول استعمال اللغة بالنسبة لسيبويه. أما بصيغة التعابير، فتشير إلى درجات متفاوتة من الانحراف عن المعيار الثابت والقياس لكلام العرب"[6].
وواقع الحال أن النظرية التوليدية قد عملت على خلخلة ما استتر بأذهان مشكلي اللسان العربي من قواعد لا يجوز – في نظر علماء النحو القدامى – خرقها ولا الاستعاضة عنها بقواعد أخرى. فكيف تعامل اللسانيون المحدثون العرب مع هذه المسألة؟ وهل استطاعوا تطبيق ما جاء به تشومسكي على اللسان العربي دون عوائق؟
1- الكتابة التوليدية العربية والتراث النحوي:
إن الدارس لواقع الكتابة التوليدية العربية، سيجد نفسه أمام موقفين مختلفين من التراث النحوي العربي: الموقف الأول يسعى إلى التوفيق بين فرضيات ومبادئ الدرس التوليدي، ومعطيات النحو العربي. ولم يقف هذا الاتجاه عند حد التوفيق، بل دعا إلى ضرورة انفتاح البحث اللساني العربي على البحوث اللغوية القديمة، إن هو أراد أن يتجاوز كل المجادلات العميقة التي تعوق تقدمه، ومن الذين يقولون بهذا الموقف نجد مازن الوعر. يقول "إن أي نظرية لسانية عربية حديثة، تطمح إلى تكوين علمية فاعلة ومتفاعلة في حقل التكوين اللساني المعاصر، لابد لها من أن تتجاوز المشكلات والمجادلات الزائفة التي تعوق البحث اللساني في الثقافة العربية المعاصرة تلك المشكلات الناتجة عن الصراع الذي مازال مستمرا بين أنصار القديم وأنصار الحديث"[7].
وعلى هذا الأساس فإن أي إغفال أو إهمال للنظرية اللغوية القديمة بمناهجها المختلفة سيؤدي  إلى نقص وعدم كفاية في النظرية اللغوية الحديثة.
أما الاتجاه الثاني، فينظر إلى التراث النحوي  نظرة انتقاص وأنفة، وهو ما نهجه الدكتور ميشال زكريا الذي يرى أنه "لا نفع بعد الآن في أن نردد بصورة متواصلة، الدراسات التي قامت بها الأجيال السابقة والمفاهيم التي تبنوها في المجالات اللغوية، وإن أضفينا عليها بعض التعديلات السطحية من حيث الشكل والعرض [...] لم تعد تفي في الحقيقة، في مجال تحليل اللغة..."[8]. إن ميشال زكريا يشير - بشكل صريح – إلى أن الدراسات  النحوية لدراسة اللغة لم تعد صالحة، ويمكن الاستعاضة عنها بالنظريات التوليدية.
وعموما، فإن التوليديين لم يستطيعوا الخروج عن الضوابط المعروفة في النحو العربي. بل إن الضوابط التي تحكم تحليلاتهم هي نفسها في التراث النحوي، فقد ظلت تحليلات اللسانيات التوليدية أسيرة التحليل النحوي، والاختلافات التي يمكن أن نقف عليها هي اختلافات تهم مصطلحات الوصف وميكانيزمات التحليل، أما جوهر اللغة فيبقى هو هو. لكن هذا لا ينفي اختلاف الأصول وطرائق التفسير. لذلك لا يستقيم القول بأن ما تقدمه اللسانيات التوليدية اليوم كفيل وكاف لتجاوز صعوبات النحو وتعقده الذي كان سببا وراء تبرك الناشئة منه.
2- نماذج من الدراسة التوليدية والثقافة العربية:
رغم التطور الذي شهدته النظرية التوليدية على مستوى النحو العام فإنه على المستوى العربي لازال في مرحلته  الجنينية، اللهم "القليل من الدراسات العربية التي تقدم فعلا افتراضات جديدة  بشأن بنيات العربية من منظور توليدي، وتعكس مجهودا عربيا فيه أصالة وإبداع يضع الدرس اللساني العربي في إطار عالمي، وتكاد هذه المساهمات تنحصر في بعض الأسماء العربية"[9]، مع ذلك فهي لا تتعدى بعض النماذج.
ويمكن التمييز في الكتابة التوليدية العربية بين خاصيتين بارزتين؛ الأولى هي أن محاولات العرب في مجال اللسانيات التوليدية كانت جزئية، أي أنها ركزت اهتمامها على نموذج أو أكثر من النماذج التوليدية، وسعت إلى تطبيقها على لغة الضاد. وأهم هذه النماذج، النموذج المعيار، والنموذج المعيار الموسع ونحو الأحوال والنظرية الدلالية التصنيفية". والثانية أنها محاولات شمولية، عملت على متابعة التطورات المتلاحقة التي عرفتها النماذج التوليدية، مع تحديث الآلة الواصفة لمعطيات اللغة العربية، والانخراط في مستجدات الأسئلة التي أفرزها الخطاب اللساني الغربي المعاصر، والتوليدي منه بشكل خاص"[10].
وسنقتصر على إيراد بعض النماذج التطبيقية للسانيين العرب على ضوء النظرية التوليدية، وذلك من خلال تناول قضية القضايا البارزة، هي:
- قضية الرتبة في البحث التوليدي:
إذا كانت اللغات تختلف في ترتيب مكونات جملها، بالنظر إلى موقع الفعل والفاعل والمفعول، فإن النظر في تراكيب اللغة العربية يظهر أنها تحيز الأنواع التالية من الترتيب في الجملة الفعلية:
- فعل – فاعل – مفعول ï قرأ الطالب القصة.
- فاعل – فعل – مفعول ï الطالب قرأ القصة.
- فعل – مفعول – فاعل ï قرأ القصة الطالب.
- مفعول – فعل – فاعل ï القصة قرأ الطالب.
- مفعول – فاعل – فعل ï القصة الطالب قرأ.
وإذا كان معظم اللسانيين العرب يعتبرون البنية الأصلية للجملة هي: فعل – فاعل – مفعول ومن هؤلاء (الفاسي الفهري، وميشال زكريا، وخليل عمايرة)، فإن باحثين آخرين، ومنهم داود عبده، يميلون إلى اعتبار الترتيب الأصلي هو: فاعل – فعل – مفعول. مما يبرز أنه اعتمد البنية الداخلية. وهذا المذهب هو ما نجده عند تشومسكي، الذي يقر على أن رتبة فاعل - فعل – مفعول، قاعدة مقولية صالحة لتأصيل الرتبة في جميع اللغات، ويصوغها على نحو:

ج   : م.س( صرفة )+ م.ف



وبخلاف تشومسكي، يرى الفاسي الفهري أن الرتبة في العربية من نمط: فعل – فاعل – مفعول: جاء الولد – أكل عمرو تفاحة – أعطى زيد عمرا قلما.
وللاستدلال عل أصل هذه الرتبة، يوظف الباحث تقنية الحجج المستخدمة في اللسانيات التوليدية مع تبريرها. وهي حجج من داخل اللغة، ومن ذلك:
1- أن هذه الرتبة توجد في الجمل التي تتضمن فعلا متعديا، حيث يتوسط الفاعل  بين الفعل والمفعول مع عدم إمكان اللبس (ضرب موسى عيسى).
2- بعض القيود على الإضمار، فالنحاة يذكرون أن مفسر الضمير يجب أن يتقدمه إما لفظا كما في جملة: "ابتلى إبراهيم ربه"، وإما رتبة كما في "دخل مكتبه زيد" فلا يجوز تأخر المفسر عن الضمير في الرتبة واللفظ كما في "ابتلى ربه إبراهيم".
3- ظاهرة التطابق بين الفعل والفاعل، فالفعل يطابق الفاعل جنسا وعددا، إذا تقدم الفاعل عليه، أما إذا لم يتقدم فلا يطابقه في العدد: جاء الأولاد، الأولاد جاءوا – جاءوا الأولاد.
وقد عمل الفاسي الفهري على محاولة التوحيد بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية ويردها إلى بنية عميقة واحدة. وهذا ما يسميه "الافتراض الرابطي" ويعني به أن "الجمل التي لا يظهر فيها فعل في سطح البنية  جمل ذات رابطة" كما في جملة: "كان في الدار رجل".
وانطلاقا من هذا، يعرض لمجموعة من العمليات الممكنة على الجملة:
أ- التبئير Focalisation ذو الموضعة:
وهو عملية صورية تنقل بمقتضاها مقولة كبرى كالمركبات الاسمية أو الحرفية... إلخ، من مكان داخلي إلى مكان خارجي، أي مكان البؤرة المحدد بالقاعدة، مثل:
- إياك نعبد – في الدار وجدته – إذا سنلتقي.
- الله أدعو – أما عن زيد فحدث ولا حرج.
ب- الخفق أو الزحلقة: ويقصد به التغيير الذي يحدث محليا بعد الفعل معيدا ترتيب الفضلات:
- ضرب زيد الولد – ضرب الولد زيد.
- جاء البارحة كثير من الرجال – جاء كثير من الرجال البارحة.
الخفق لا يؤثر بشكل يذكر في الصور المنطقية للجمل ï قاعدة أسلوبية لا تحويلية.
ج- التفكيك: Dislation
هو انتقال العنصر (زيد) في جملة (زيد ضربته، من موقع داخلي إلى موقع خارجي، ويترك مكانه أثرا ضمنيا، (تحريك إلى اليسار) ويمكن كذلك: (ضربته زيد)، (تحريك إلى اليمين).
ومن هذا كله، يبرر الفهري موقفه القاضي بكون اللغة العربية  من نمط: فعل – فاعل – مفعول. والهدف من ذلك هو إبراز أن اللغة العربية لغة طبيعية لا تختلف معطياتها من الإنجليزية.

خاتمة:
إن النظرية التوليدية شكلت بحق طفرة من نوع خاص. في مجال الدراسات اللسانية. فاستطاعت بذلك أن تؤكد استغلاليتها وجدارتها في تحليل الظاهرة اللغوية. وما يعطي للمشروع التوليدي مشروعيته، وأهميته، هو أنه عمل على تجاوز الدراسة السطحية الواصفة إلى دراسة تفكيكية تفسيرية تبسط فهم آليات اشتغال الألسن.
غير أن واقع الحال في الثقافة العربية، يؤشر عن تفاوت صارخ، من حيث أهمية وجدية المحاولات التي كتب لها فضل البحث والعناء في سبر أغوار اللغة العربية.

البيبليوغرافيا

1- الألسنية التوليدية والتحويلية، ميشال زكريا.
2- البناء الموازي: عبد القادر الفاسي الفهري، دار توبقال، الدار البيضاء، ط 1، 1990م.
3- الخلفية الفلسفية في النظرية التوليدية: بنكيران محمد الطيب، مجلة عالم الفكر، م 25، ع 3، 1997.
4- دراسات مغاربية، مجلة البحث والببليوغرافيا المغاربية، عدد 9/1999، ف. النحو التوليدي ومقاربة اللغة.
5- علما الطبيعة واللسان: صنوان عند تشومسكي، ت. الدكتور محمد عبد الرزاق قدورة، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، ج 3، م 66، 1991.
6- من قضايا اللغة العربية في اللسانيات التوليدية، حافظ إسماعيلي علوي، عالم الفكر، ع 1، م 31، يوليوز- سبتمبر 2008.
7- من قضايا اللغة العربية في اللسانيات التوليدية، عالم الفكر، ع 1، م 37، يوليوز– سبتمبر 2008.



[1] - علما الطبيعة واللسان: صنوان عند تشومسكي، ت. الدكتور محمد عبد الرزاق قدورة، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، ج 3، م 66، 1991، ص: 545.
[2] - من قضايا اللغة العربية في اللسانيات التوليدية، عالم الفكر، ع 1، م 37، يوليوز – سبتمبر 2008، ص:  145.
[3] - الخلفية الفلسفية في النظرية التوليدية: بنكيران محمد الطيب، مجلة عالم الفكر، م 25، ع 3، 1997، ص: 46.
[4] - البناء الموازي: عبد القادر الفاسي الفهري، دار توبقال، الدار البيضاء، ط 1، 1990م، ص: 17.
[5] - من قضايا اللغة العربية في اللسانيات التوليدية، حافظ إسماعيلي علوي، عالم الفكر، ع 1، م 31، يوليوز- سبتمبر 2008، ص: 145-146.
[6] - دراسات مغاربية، مجلة البحث والببليوغرافيا المغاربية، عدد 9/1999، ف. النحو التوليدي ومقاربة اللغة، ص: 39.
[7] - الألسنية التوليدية والتحويلية، ميشال زكريا. (الهامش ص 12).
[8] - من قضايا اللغة العربية في اللسانيات التوليدية، ص: 179.
[9] - نفسه، ص: 179.
[10] - من قضايا اللغة العربية في اللسانيات التوليدية، ص: 146.

ليست هناك تعليقات: