الجمعة، 8 يوليو 2011

نحو تصور كلي لأساليب الشعر العربي المعاصر

                        د. صلاح فضل 
المساوي
1)  بين النظرية والتجريب

يرى صلاح فضل أن تكوين تصور كلي عن أساليب الشعر العربي المعاصر يتطلب بالضرورة ربط المعرفة التجريبية المستمدة من النصوص ذاتها بإطار نظري نوعي يستقطبويرشد خطواتها.
سيتحقق ذلك عند تصنيف الإنتاج إلى مدارات أسلوبية كبرى، تضم عديدا من الشعراء دون أن تمحو الحدود الفارقة بينهم أو تغفل عن إمكانية اجتياز الشاعر الواحد للمسافات الواقعة بين تلك المدارات.
إنه يدعو إلى " علم أدب محدث"، ونجده يضع لذلك العلم مجموعة من الشروط، هي:
¨     أن تكون مشكلاته وحلوله مصوغة بلغة مشتركة ومفهومة ( فرضية اللغة المتخصصة الاصطلاحية البعيدة عن التهويم ) .
نقول له: إن كل نص أدبي يمتلك لغة وأسلوبا خاصا وهو الذي يفرض شروط معالجته. وأن لاسبيل للحديث عن لغة مشتركة ومتخصصة ما دمنا نتحدث عن النص الأدبي.
¨    أن تكون قضاياه ونتائجه قابلة للاختبار الموضوعي؛ أي أن تتشكل على أساس تجريبي نقدي ( فرضية قابلية الاختبار ).
نقول: لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتوصل إلى منهج أو علم صالح لدراسة كل النصوص الأدبية على شكيلة واحدة. وكما يقول الأستاذ الذهبي: " أن يكون النص حقلا للتجارب والدراسات".
¨     طرح الإشكاليات وإيجاد الحلول لها ( فرضية المناسبة والأهمية ).
نقول: كل نص يحمل إشكالا خاصا ، لدى فلا سبيل إلى طرح الإشكاليات خارج النصوص الأدبية، لأننا لن نجد لها حلولا وبالتالي سنسقط في مثل ما سقطت فيه البلاغة المعيارية.
¨    أن تكون قابلة للتعليم والتعلم في بعض المؤسسات الاجتماعية والأكاديمية المتخصصة، دون حاجة إلى قدرات فنية خاصة ( فرضية قابلي
الانتقال ).
              وهنا الدعوة إلى التبسيط.
              والجميل في تصوره هو الدعوة إلى الالتزام بالتجريب والتخلص من الطابع الصوري المضاد للتجريب.
              إنه مجال من الأحوال يدعو إلى بناء" نحو كلي للشعر "، وهو ما لاسبيل إلى تحققه، " فكل نص أدبي له قواعده التي لاتنطبق إلا عليه، ولكل نص علمه الذي ينطبق عليه. وكل أديب له أسلوبه الخاص.
2)  من التعبير إلى التوصيل

إن " منطلق دراسة الأبنية الشعرية " باعتبارها " لغة ثانية " لا بد أن يتأسس من منظور التعبير، وأن ينحو إلى الارتباط بفكرة التوصيل المتعلقة بالقراءة، وهي متزامنة مع التوصيل اللغوي الطبيعي ومجاوزة له بشفرتها " الجمالية ".
ففي اللغةالعادية، بإمكان كل واحد يمتلك نحوا كاملا أن يحل جميع المشكلات المطروحة عليه إنتاجا وتلقبا.
لكن الأمر يختلف مع اللغة الشعرية، إذ ليس بإمكان كل واحد يمتلك نحوا أن يفك شفرات اللغة الشعرية الجمالية.
يبقى السبيل لفهم التعبيرات الشعرية،هو الربط بين فكرتي التعبير والتوصيل.
ويشير إلى نفس المسألة في مقال آخر عنونه ب"علم الأسلوب وصلته بعلم اللغة"، ويقول: " ... الأسلوب الأدبي لايمكن أن يدرس جديا بعزله تماما عن عملية التواصل التي يشترك فيها المؤلف والقاريء عبر النص ..." (مجلة فصول الأسلوبية ، م5. ع1 أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر1984).
وبالفعل فلا وجود لنص أدبي خال من الإقناع " فما من منتج للأدب إلا ويفكر في المتلقي، ويهدف لاستمالته، إلا أن القناع في النص الأدبي له خصوصياته التي تميزه عن الإقناع في خطبة سياسية، أو مرافعة قضائية..." (عز الدين الذهبي: الأسلوب بين اللغة والنص، ص: 19).
فالمتلقي هو المسؤول الأول والأساس في الرسالة ؛ فوظيفته بالغة الإيجابية والدينامية في عملية التواصل الفنية، إذ يتدخل في خلق القصيدة ابتداء من تصورها الأول.
فالشاعر يكتب لا محال بشكل يدعو القاريء لتقبل ما ينشىء وبدون هذا التقبل( لذة النص)، لا وجود للشعر.
وقد يستضم مفهوم التوصيل الشعري بما سماه شعراء الحداثة مند " مالارميه "
 ( مبادرة اللغة في الخلق )؛ فعندما يهتدي الشاعر إلى الكلمات التي تنقل توتره، فإن هذه الكلمات تورط الشعر فيما لم يكن يقصده خاصة ما قبل الكتابة، أما في حالة الكتابة فإن الاختيار اللغوي بكل ما يترتب عليه من آثار يصبح مؤشر التوصيل.
عموما فحيثما وجد النص الأدبي، توجد فكرة التوصيل الشعري.
3)  سلم الدرجات الشعرية:

         من خلال العنوان يتضح جليا أن الكاتب قدم مشروعه المتمثل في محاولة الإجابة عن إشكالية: ما يجعل من القصيدة الشعرية قصيدة جمالية؟ فاستعان بالآليات الإجرائية للنظرية التوليدية إذ يقول في هذا الصدد:  "... علينا أن نحدد جهازا مفاهيميا مبسط يصلح لتنظيم المقولات التوليدية للأساليب الشعرية المختلفة..." ( ص: 76-77). وإذا تتبعنا كلامه نجده يتحدث عن البنية السطحية والبنية العميقة، فهو إذن استعان بالنظرية التوليدية، وأراد تطبيقها على النص الأدبي، وقلنا على أن النص الأدبي نص متعدد القراءات والتخريجات، وهو من يفرض المنهج الملائم لدراسته لا أن يفرض عليه المنهج، وبالتالي فكلام صلاح فضل قابل للنقاش.
وما يؤكذ أنه استعان بالنظرية التوليدية في دراسة النص الأدبي هو قوله:" ... ويتسم بجملة من الخواص من أهمها المرونة، والاستيعاب وقابلية التطبيق، والتدرج من الجزء إلى الكل..."( ص:77 ).
فهذا الجهاز الذي اقترحه صلاح فضل لدراسة النص الأدبي يتمثل في خمس درجات هي كالتالي: ( درجة الإيقاع، درجة النحوية، درجة الكثافة، درجة التشتت، درجة التجريد).
ونقف معه عند قوله: إن الأساليب الشعرية يمكن أن تخضع للقياس والتحليل، نحن نقول: إن لكل نص خصائصه وأدواته الخاصة لدراسته، وبالتالي لامكان للقياس في النص الأدبي.
كما أنه أجمع على أن جميع النصوص الأدبية تدور حول تلك الدرجات التي حددها، وهذا لايجوز .فلا يمكن إعطاء حكم قيمة على الأشياء وبخاصة منها المتحركة مثل النصوص الأدبية، فهي تنمو وتتطور ولها عدة أبعاد وإيحاءات، وتطرح عدة قضايا يصعب تقديم إجابات حاسمة ونهائية. مثل هل النص الأدبي علم ، أم إيديولوجيا، أم فن؟ثم أخذ في تقديم تعاريف لهذه الدرجات التي ذكرنها سلفا، وعلى رأسها " البنية الإيقاعية " إذ يقول: "فهي أول المظاهر المادية المحسوسة للنسيج الشعري الصوتي، وتعالقاته الدلالية، وبوسعنا أن نطمئن إلى تحديد " كريماص " لها باعتبارها أجرومية التعبير الشعري" (ص:77).
فلأسلوبيين لايولون أهمية للبنية الإيقاعية لأن موضوع الأسلوبية هو البحث عن دلالات وإيحاءات النص الأدبي، فرغم محاولة صاحب المقال تطبيق الأسلوبية على الشعر الحديث، إلى أن الملاحظ هو اشتغاله بآليات ومعايير بلاغية، في حين أن الأسلوبية ترى أن لكل نص آلياته وقواعده الخاصة يفرضها عند دراسته.
أما النقطة الثانية أو بعبارة لغة صلاح فضل الدرجة الثانية فهي " الدرجة النحوية " إذ يقول : " فهو مصطلح توليدي اقترحه أولا تشومسكي كطريقة منظمة لتحديد نوعية الانحراف اللغوي عبر مقولات شكلية مضبوطة" ( ص:78 )، فحاول من خلال هذا التعريف أن يستعين بما توصلت إليه النظرية التوليدية في دراسة اللغة العادية، فهو في هذه الحال لا يميز بين اللغتين العادية والأدبية. ومحاولة وضع نحو كلي للشعر تتعارض مع النظرية الأسلوبية؛ لأنها لا تقبل المعيارية. وهذا ما ذهب إليه " صلاح فضل " في قوله : " ... إن نظرية الشعرية... تعمد إلى وصف الآليات التي تنتجها بطريقة إيجابية عن طريقة إقامة نحو الشعر..." ( ص: 79).
ولا ضير في أن نقف مع صلاح فضل عند قوله: " تتصل أساسا في تقديرنا ( درجة الكثافة) بمعيار الوحدة والتعدد في الصوت والصورة ... " (ص: 80 )، فاللغة العادية بدورها تتصف بالوحدة والتعدد في الصوت والصورة، وبالتالي فلا موجب للتسوية بين دراسة اللغة العادية، ودراسة اللغة الأدبية؛ لأن هذا فيه قتل للإبداع الجمالي في الأدب، وستكون النتائج المحصل عليها نتائج لسانية لا غير.
ثم يقول في مكان آخر " ... وجود فروق جوهرية بين الشعراء الثلاثة ( البارودي، وشوقي، والشابي ) في استخدام اللغة التصويرية ... " (ص: 80). وهنا فاضل بين الشعراء بواسطة إحصاء الصور الشعرية في شعر كل واحد منهم، وهذا لايجوز ؛ لأن جمالية النص الأدبي لا تكون فقط في استخدام الصور الشعرية، بل في أشياء أخرى تكشف أثناء تحليل النص تحليلا أسلوبيا ( الأدبية ).
ونجده يقول في نفس المقال: " ويبق للنقد الأدبي بعد ذلك أن يبحث في مدى دلالة هذه الكثافة الكمية للصور الاستعارية بقياس درجة انحرافها التخييلي، وارتباطها بأحادية الصوت الشعري أو تعدده ... " (ص: 80).
عندما قرأت هذا النص كنت أنتظر من صلاح فضل يوضح معنى قوله : " درجة انحراف الصور التخييلية " بمعنى أن هناك مراتب ودرجات لهذا الانحراف، نسأله هنا عن هذه الدرجات ما هي؟ وما عددها؟وما فائدة هذا في تطور النقد الأدبي؟ وفي مكامن الجمال في النصوص الأدبية ودراستها دراسة علمية؟ فالأسلوبيين لا يحكمون على النص الأدبي انطلاقا من عدد الصور الشعرية، بل مما توحي من دلالات، تلك الدلالات الإضافية الناتجة عن خرق الشاعر للمألوف ، وبتعبير صلاح فضل " الانحراف ".
ويقول في العنصر الرابع " درجة التشتت " : " ... وهو أكثر العناصر التحاما بالخواص الجمالية الشاملة للنص، ويرتبط بدوره بالمستويات السطحية والعميقة له ... " ( ص: 81).يتضح من قوله هذا أنه استعان بمصطلحات بنيوية وطبقها على النص الأدبي، ولا نرى ضيرا في ذلك ، لكن إذا تتبعنا كلامه سنجد أنه يحاول أن يحلل النص الأدبي وفق الآليات الإجرائية للنظرية التوليدية، وهذا غير مقبول ؛ لأن كل نص يفرض أدوات خاصة بتحليله.
يقول في مكان آخر من مقاله : " وقد أثيت البحث في مجال التلقي الفني أهمية النماذج وأشكال التوقع البنيوية، التي تسمح لنا بتصنيف واختيار وتنظيم ما نتلقاه ... " ( ص: 82 ).
نقول : إن كل نص أدبي له شروط تحكمه ( اجتماعية، اقتصادية، نفسية، تاريخية، فكرية ...)، ولا شك أن علماء الأسلوبية قد انتبهوا إلى هذه الخواص التي تحكم كل نص على حدة.
يقول : " ... إذ لا يستطيع تنظيم تأويل مناسب للنص مالم يعتمد على أحد هذه النماذج الشكلية لأنواع التماسك ... " ( ص: 82 ). هذا الكلام صحيح إذا كنا نتعامل مع نموذج واحد أو نماذج محدودة، لكن أمام ما لا نهاية له من النماذج، إذ لكل نص نموذج خاص به، وبالتالي فالانطلاقة من هذه النماذج لا تؤذي دائما إلى التأويل والفهم الصحيحين للنصوص الأدبية.
يقول في الدرجة الخامسة " درجة التجريد " : " ... وذلك لأن درجة الحسية تتعلق إيجابا بدرجتي الإيقاع خارجيا واضحا والنحوية مكتملة مستوفاة كانت الحسية أبرز ... " ( ص: 84 ). نظن أن صلاح فضل يعني ب " الحسية " الظهور والبيان، ويقصد ب " التجريد " اللبس والغموض.ومثال ذلك في القرآن الكريم، قوله تعالى: " إن هذان لساحران ".
 فقد جاءت الآية فوق القاعدة النحوية، وبالتالي تميل إلى اللبس والغموض، وهذا هو موضوع الأسلوبية؛ أي أن تجيب على السؤال : لماذا جاءت الآية القرآنية على هذا المنوال؟ وما السر في خرق القاعدة؟
لا بأس من الوقوف عند قوله : " ... فالكلمات الحسية في شعر الغزل الصريح مثلا تميل إلى تجارب حسية مشحونة بشهوة الحياة وشيق الغرائز... " ( ص: 85 ).نقول : إن النص الأدبي متعدد القراءات والإيحاءات، فليس هناك قاموس شعري خاص بالغزل وآخر خاص بالهجاء... وهكذا، كما أنه ليس هناك كلمة شعرية وأخرى غير شعرية، وإنما نحكم على الكلمة انطلاقا من السياق الذي وردت فيه.
عموما فمشروع " صلاح فضل " هذا مشروع محمود، لكن يبقى قابلا للنقاش، والنقد، كما هو حال جميع النظريات.

4)  جدولة الأساليب الشعرية:

  عندما نقف على العنوان " نحو تصور كلي لأساليب الشعر العربي المعاصر  " نجد أن الرجل غال بعض الشيء في مذهبه، على أنه سيحيط بالشعر العربي المعاصر من كل جوانبه ، ولن يغفل منه أي جانب، وهذا الأمر في مجال الأدب والعلوم الإنسانية بشكل عام لا يمكن أن نسلم به؛ لأن الأدب والشعر المعاصر خاصة يجدد في آفاقه وسياقاته بشكل لايمكن أن يحصر بتصور كلي ، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فعندما نسمع جدولة الأساليب الشعرية، نفهم أننا أمام منهج إحصائي، وهذا ما سيفعله صلاح فضل عندما قسم الشعر العربي المعاصر إلى قسمين حسب الأساليب : أساليب تعبيرية، وأساليب تجريدية.
قسم الأول إلى أربعة أساليب:
v    الأسلوب الحسي ( يمثله نزار قباني ).
v    الأسلوب الحيوي ( يمثله أحمد عبد المعطي حجازي ).
v    الأسلوب الدرامي ( يمثله صلاح عبد الصبور ومحمود درويش).
v    الأسلوب الرؤيوي ( يمثله عبد الوهاب البياتي).
       وقسم الثاني إلى قسمين :
ü    الأسلوب التجريدي الكوني ( يمثله أدونيس).
ü     الأسلوب الإشراقي ( يمثله عفيفي مطر  وسعد يوسف).
فصلاح فضل يصنف الشعراء بحسب أسلوب شعرهم ولهذا لا يمكن أن نذهب مع صلاح فضل في هذا المذهب ؛ لأن الشعر ليس مواد ثابتة يمكن أن نصنفها حسب طبيعتها فالشعر متحول ومتجدد باستمرار، ويمكننا أن نصنف شاعرا حسب قصيدة ما في الأسلوب الحسي من الأساليب التعبيرية، وقد نجد قصيدة أخرى لنفس الشاعر تدخل في الأسلوب التجريدي الكوني، وقصيدة أخرى تدخل في الأسلوب الدرامي.
إذن أين يمكننا أن نحصر هذا الشاعر؟ أو بصيغة أخرى أي أسلوب يمثله هذا الشاعر؟ لأن كل قصيدة تفرض علينا أسلوبها الخاص بها وليس الشاعر موقعه صلاح فضت في أسلوب معين لا يكاد يبرحه.


   

ليست هناك تعليقات: