الاثنين، 18 يوليو 2011


"بناء القصيدة الجاهلية"
                                                                                                                         المساوي
مقدمة:

بسم الله الرحمان الرحيم، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطاهرين، ومن سار على نهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
وبعد...
فقد كانت القصيدة العربية، في أكثر الأحيان متصلة اتصالا حميما وثيقا بحياة القوم ووجدانهم، وتعبيرا أصيلا عن حاجياتهم، ومواقفهم من الحياة، وتصويرا صادقا لأفراحهم وأتراحهم وما يتصل بذلك من حرب وسلم، وشدة ورخاء، وحب وكره وانتقام ونحوها...
فكان لزاما على الشعراء أن يعتنوا بقصائدهم أيما عناية، حتى أن منهم من يكتب القصيدة في شهر، وينقحها في حول بكامله، فسميت هذه القصائد "بالحوليات"، ولقب أصحابها "بعبيد الشعر"، ومن هؤلاء زهير والنابغة.
المهم أن هؤلاء الشعراء وغيرهم، قد ارتضوا بناء خاصا لقصائدهم، بناء على قدر من الدقة والانسجام والتآلف، بل والتكامل أيضا.
لكن المشكل يكمن في أن بعض النقاد حكم على هذه القصائد بالتفكك، والاستقلالية والسبب في ذلك أنهم اقتصروا على دراسة البيت الواحد فحكموا من خلاله على القصيدة ككل، في حين أن ما كان مطلوبا هو الاطلاع الواسع على القصيدة، ودراستها بيتا بيتا، قصد اكتشاف كنهها، وسبر أغوارها.
واليقين أنهم لو فعلوا ذلك، لوجدوا القصيدة، كما لو أنها كلمة واحدة، في اتساق معانيها، وقوة ألفاظها، وترابط أبياتها، وتكامل أطرافها.
وفي هذا البحث المتواضع، سأحاول أن أقف عند واحدة من تلك القصائد، وهي قصيدة "زهير بن أبي سلمى"، لعلي أستطيع أن أزيل النقاب عن هذه المسألة.
وتكون الإجابة عن الأسئلة التالية في ذلك:
- ما هي آراء النقاد القدامى في بناء القصيدة العربية الجاهلية؟
- ما هي آراء النقاد المحدثين في بناء القصيدة العربية الجاهلية؟
        - ما هي مقومات الوحدة العضوية داخل معلقة زهير؟

I- الجانب النظري:

1- رأي النقد القديم في بناء القصيدة الجاهلية:

شكلت مرحلة التدوين نقطة تحول في الأدب العربي، بل في الفكر العربي عامة. إذ كان لخدمة القرآن الكريم واللغة العربية أثر في توجيه الأدباء والنحاة واللغويين في اتجاه الموروث الثقافي العربي، وعلى رأسه الشعر. ونظرا لنا لهذا الأخير من أثر في النفوس، فقد اعتنى به الأدباء أيما عناية، وعلى رأسهم ابن قتيبة، أبي محمد عبد الله بن مسلم (ت 276)، في كتاب "الشعر والشعراء"، وابن طباطبا العلوي (ت 322 هـ) في كتاب "عيار الشعر"، وابن رشيق القيرواني الآزدي (و 390- ت 456) في كتاب "العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده"، وغيرهم الكثير.
فيما يخص ابن طباطبا، فيرى في القصيدة الجاهلية ذلك البناء المنسجم والمتكامل والمرصع، أي المتآلف الأبيات، معنى ولفظا وأفكارا، حيث ينتقل الشاعر فيها من معنى إلى معنى في سهولة ويسر، دون عنت.
و"... من الأشعار المحكمة المتقنة المستوفاة المعاني، الحسنة الرصف، سلسة الألفاظ التي خرجت خروج النثر سهولة وانتظاما (...) قول زهير:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعيش



ثمانين حولا لا أبالك يسأم

فصفات الإتقان، والإحكام، وحسن الرصف، وسلاسة الألفاظ وخرجها وخروج النثر سهولة وانتظاما من صفات حسن الصياغة والنسج..."[1].
عموما، فقد كان اهتمام ابن طباطبا بالقصيدة، كغيره من النقاد القدامى، منصبا على ما به تتحقق وحدة القصيدة التركيبية والدلالية، حيث يقول: "... يجب أن تكون القصيدة ككلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها نسجا  وحسنا وفصاحة وجزالة ألفاظ"[2].
ونفس الشيء نجده مع عبد القاهر الجرجاني في قوله: "لا نظم في الكلم  ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض ويبنى بعضها على بعض"[3].
فدور الكلمة يتحدد بما قبلها أو ما بعدها، وانسجام النص يتم على قدر انسجام كلماته؛ فكلما كان الكلام تاما ووافق بعضه بعضا كان النص سليما في مبناه ومعناه، وكلما كان الكلام متنافرا اختل بناء النص، وضاعت معانيه، وإلا فماذا تقول عن قول الشاعر؟:

وقبر حرب بمكان قفر



وليس قرب قبر حرب قبر

 لذلك "... رأى  (ابن طباطبا) ضرورة أن تبنى القصيدة بناء فنيا متكاملا في مطلعها وتمهيدها (...)، وتخلصها، وانتقالها من موضوع إلى آخر (...) فهو يطلب في القصيدة الشعرية بناء كبناء الرسالة. يقول عن الشاعر "ويسلك في القصيدة منهاج أصحاب الرسائل في بلاغاتهم، وتصرفهم في مكاتباتهم فإن للشعر فصولا كفصول الرسائل، فيحتاج الشاعر إلى أن يصل كلامه على تصرفه في فنونه صلة لطيفة، فيتخلص من الغزل إلى المديح، ومن المديح إلى الشكوى، ومن الشكوى إلى الاستماتة، ومن وصف الديار والآثار إلى وصف الفيافي والنوق... بألطف تخلص، وأحسن حكاية، بلا انفصال للمعنى الثاني عما قبله، بل يكون متصلا به، وممتزجا معه"[4]. وهو ما لا وجود له سوى في القصيدة العربية الجاهلية.
وقد عمل بن رشيق على وضع مجموعة من الضوابط التي لاشك أنه أخذها، أو استقاها من القصيدة العربية الجاهلية؛ إذ يرى في المطلع أن يكون مجودا، ذلك أنه أول ما يقرع السمع، وبه يستدل الشاعر على ما عنده من أول وهلة، وإلى جانب التجويد، يجب أن يكون المطلع أيضا حلوا سهلا، وفخما جزلا[5].
     وكذلك "... خاتمة الكلام أبقى في السمع، وألصق بالنفس، لقرب العهد بها، فإن حسنت حسن، وإن قبحت قبح، والأعمال بخواتيمها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"[6].
و"... البيت من الشعر كالبيت من الأبنية: قراره الطبع، وسمكه الرواية، ودعائمه العلم وبابه الدربة وساكنة المعنى، ولا خير  في بيت غير مسكون، وصارت الأعاريض والقوافي كالموازين والأمثلة للأبنية، أو كالأواخي، والأوتاد للأخبية، فأما ما سوى ذلك من محاسن الشعر فإنما هو زينة..."[7].
والكيس من راع هذه الأمور، ونظر في أحوال مخاطبته، فقصد محابهم، ومال إلى سمواتهم، وتفقد ما يكرهون سماعه فتجنب ذكره، "... ألا ترى أن بعش الملوك قال لأحد الشعراء وقد أورد بيتا ذكر فيه "لو خلد أحد بكرم لكنت مخلدا بكرمك". وقال كلاما نحو هذا، فقال الملك: إن الموت حق، وإن لنا منه نصيبا، غير أن الملوك ذكر ما ينكد عيشها، وينغص لذتها، فلا تأتنا بشيء مما نكره ذكره.
ومن المشهور أن النعمان بن المنذر رأى شجرة ظليلة ملتفة الأغصان، في مرج حسن كثير الشقائق، وكان معجبا بها، وإليه أضيفت "شقائق النعمان" فنزل وأمر بالطعام والشراب فأحضر، وجلس للذته، فقال له عدي بن زيد العبادي، وكان كاتبه: أتعرف أبيت اللعن ما تقول هذه الشجرة ؟ فقال: وما تقول؟ قال: تقول:

و ركب قد أناحوا حولنا
 
عطف الدهر عليهم فتووا
 
من رآنا فليوطن نفسه



يشربون الخمر بالماء الزلال

وكذلك الدهر حال بعد حال


إنما الدنيا على قرب زوال



كأنه قصد موعظته، فتنغص عليه ما كان فيه، وأمر بالطعام والشراب فرفعا من بين يديه، وارتحل من فوره، ولم ينتفع بنفسه بقية يومه وليلته..."[8].

2- رأي النقد الحديث في بناء القصيدة الجاهلية:

لا يخفى أن النقاد المحدثين قد أولوا المسألة جانبا من اهتماماتهم، إلى درجة أنها صارت موضع خلاف بين كثير منهم.
فهذا محمد عبد العزيز الكفراوي (دكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن)، يتحدث عن بناء القصيدة في الباب الأول من كتابه "الشعر العربي بين الجمود والتطور"، فكان الضوء مسلطا منه على نوع خاص من القصائد؛ وهي القصائد المطولة بحكم اهتمام الشاعر الجاهلي بها، وبكونها تمثل بناء متكاملا يصلح للدراسة، على اعتبار أن هناك نوع آخر من القصائد لم يعره الشاعر أدنى اهتمام، وليس له بناء خاص جدير بالدراسة. فأول ما يلاحظ على القصائد الجاهلية، وبالأخص المعلقات العشر بدؤها بالوقوف على ديار الحبيبات بعد رحيلهن، والدعاء لها حينا، والبكاء عليها أحيانا، ووصل ذلك بالحنين إلى صواحبها، على اختلاف في درجة الإسراف أو الاقتصاد، بعد ذلك يكون الانتقال تبعا لأهواء ورغبات كل شاعر على حدة؛ فامرؤ القيس مثلا ينتقل من التشبيب إلى الصيد وما اعتور ذلك من وصف

وقد أغتدي والطير في وكناتها



بمنجرد قيد الأوابد هيكل

للخيل. يقول:  
          بينما يذكرنا طرفه بهواية غير الصيد وهي الضرب في تخوم الصحراء على ظهر ناقته، ثم يسرف في الحديث عن هذه الأخيرة إسرافا يضيق به من لم يألف الشعر الجاهلي، بعد ذلك يأخذ في الفخر بنفسه والدفاع عنها.
على أن هناك أمثلة قليلة لمعلقات بدأت بالغزل والتشبيب، ومن ذلك معلقة عمرو بن كلثوم، ونوع ثالث بدأه صاحبه بوصف الطبيعة والصيد عوض الغزل والأطلال، ويظهر ذلك في قول زهير بن أبي سلمى يمدح حصن بن حذيفة بن بدر الغزاري:

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله
وأقصرت عما تعلمين وسددت
وغيث من الوسمى ********
هبطت بممسود النواشر سابح




وعري أفراس الصبا ورواحله
علي سوى قصد السبيل معادله
أجابت روابيه النجاء هواطله
ممر أسيل الخد نهى مراكله
[9]
يرى الكفراوي أن سبب بدء الشعراء قصائدهم بمقدمات تمهيدية خارجة عن الموضوع الأساسي يتمثل في كون الشعر العربي "... بدا أول الأمر في صورة نجوى بين المرء ونفسه يترجم بها مشاعره، ويتغنى فيها بآماله وآلامه، وعواطفه ونزعاته كلما طال عليه الليل، أو امتد به الطريق فيحيل تلك المشاعر والعواطف ألحانا عذبة، وأغاريد شجية، وأي شيء أحب إلى نفسه وألصق بفؤاده من حبيبته يسترجع ذكرياته معها حلوها ومرها (...)، فإن حال الزمان بينهما فارتحلت عن ديارها على عادة البدو، لم يجد سوى الربع الخالي يروي أرضه بدموعه حينا، ويسأله عن الحبيبة الراحلة أحيانا، ويتلمس في جوانبه موطئ أقدامها، ومضجع جنبها (...)، ومن يدري لعل الشاعر العربي لم يكن يبكي حبيبته أو يرثي لعشها المهجور فقط، بل كلن يبكي من حيث لا يشعر ذلك الحظ التعس الذي مني به هو وأمثاله من البدو حين فرضت عليهم ضرورة الحياة، ألا يزالوا متنقلين على رقعة الصحراء كأنهم قطع الشطرنج (...)، ولست أدري مدى ما يمكن أن يكون في قولنا من صواب، إذا ذهبنا إلى أن ارتباط الرجل العربي بالمرأة من جهة وبالبيت من جهة أخرى أقوى مما نتصور. فلم يكن عبثا أن يقول الله تعالى وهو العليم بسرائر خلقه: "والله جعل لكم من بيوتكم سكنا"، ويقول في آية أخرى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها"..."[10].

إذن فالمسألة يتخللها غموض.
أما شأن الرحلة والراحلة فقد ورد كثيرا في شعر الجاهليين الأوائل على أنه ضرب من ضروب المغامرات، فهم يستعيدون بذلك عصر الفتوة والشباب الذي تركوه وراء ظهورهم. وهو لذلك جزء متمم لما بدأه الشاعر في مستهل قصيدته.
على أن المتأمل لشعر الأوائل من الجاهلين يدرك صدق ذلك "... ألا ترى طرفة مثلا يقول في قصيدته الرائية بعد أن فرغ من التشبيب بحبيبته:

وبلاد زعل ظلمانها
قد تبطنت وتحتي جسرة
فترى المرو إذا ما هجرت
ذاك عصر وعداني إنني
من أمور حدثت أمثالها



كالمخاض الجرب في اليوم الحذر
تتقى الأرض بملئوم معر
عن يديها كالفراش المشفتر
نابني اليوم خطوب غير أسر
تبترى عود القوى المستمر

(...) ويروي ذكر الرواحل مقترنا باللهو والهوى والشباب في قول زهير:

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله



وعرس أفراس الصبا ورواحله

على أن امرؤ القيس قد قطع كل جدل حول هذا الموضوع..."[11].
فضلا عن هذا، كان الشاعر أيضا على وعي بإقامة الوزن وتسديد القافية والتماس الروي وإصابة المعنى وربما كان ذلك مما شغله عن زخرفة اللفظ وتقليب العبارة كما فعلت طائفة من شعراء العصر العباسي، ومنهم ابن المعتز، ومسلم بن الوليد، وأبو تمام، وبشار...
في حين أن اهتمامهم بتنقيح الشعر وتهذيبه لم يظهر بصورة واضحة إلا في أواخر العصر الجاهلي على عهد زهير بن أبي سُلمى (بضم السين). فكان ذلك نتيجة أفكارهم وطبائعهم القلقة.
والجدير بالذكر أن بناء القصيدة – كما يرى الكفراوي – في العصر الإسلامي والأموي ظل صورة من الجاهلي، إلا فيما ندر، فقد ظلت العناصر الأولية، والسمات الأصلية التي اتسم بها الشعر الجاهلي هي هي.
نفس الشيء نجده مع طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي".
لكن شوقي ضيف في كتابه "التطور والتجديد في الشعر الأموي"، سينفي كل هذه الإدعاءات ويأتي بطرح جديد مفاده أن بناء القصيدة العربية قد طرأ عليه تغيير خلال الفترة الإسلامية، والأموية بعدها. خصوصا في الأغراض، وهو شيء طبيعي، ذلك أن كل فترة تاريخية تطرح إشكاليات جديدة، وتقتضي نظرة وتصورا جديدين. والإسلام كان له موقف واضح من الشعر الجاهلي، حيث حافظ منه على ما يوافق الدعوة الإسلامية ويخدم الأمة وتصدى لكل شعر من شأنه أن يخلخل وحدة الدين ووحدة الأمة، إلى درجة أن سورة في القرآن الكريم سميت "بسورة الشعراء". وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في امرئ القيس: "ذاك رجل معروف في الدنيا شريف فيها، يأتي يوم القيامة إلى النار، ومعه لواء الشعراء". وقال في عنترة: "ما وصف لي رجل فأحببت أن أراه إلا عنترة". وكذلك قوله في لبيد، وقول عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، في زهير: "... كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتتبع حواشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه..."[12].
أما عامل الوحدة في القصيدة الجاهلية فقد كثر فيه القول والقيل، فمن المعاصرين؟ من يرى أن القصيدة الجاهلية تفتقر إلى عامل الوحدة الذي يؤدي إلى تماسك أجزائها المتعددة، ومرد ذلك – في نظر هؤلاء – يعود إلى طبيعة الحياة البدوية؛ فتناثر أبيات القصيدة ما هو إلا انعكاس منطقي لتناثر خيامهم، ومواطن نزولهم وإقامتهم في البادية، بمعنى أن كل بيت من أبيات القصيدة القديمة يمثل وحدة معنوية مستقلة بنفسها كخيامهم في الصحراء[13].
على حين يرى آخرون، منهم د. علي عبد الله إبراهيم، أن هذا الكلام غير دقيق، ذلك أن الشعر القديم الذي بين أيدينا يدفع عن نفسه هذا الاتهام بصورة مقنعة إلى حد بعيد. يقول الجاحظ معلقا على بيتين أنشد أحدهما خلف الأحمر، وأنشد الثاني أبو البيداء الرياحي وهما:

وبعض قريض القوم أولاد علة
وشعر كبعر الكبش فرق بينه




يكد لسان الناطق المتحفظ
لسان دعي في القريض دخيل


"وإذا كانت الكلمة ليس موقعها إلى جنب أختها مرضيا موافقا كان على اللسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤونة.
وعلق على البيت الذي أنشده الرياحي بما يلي: "(...) وكذلك حروف الكلام وأجزاء البيت من الشعر تراها متفقة ملساء، ولينة المعاطف سهلة وتراها متباينة ومتنافرة مستكرهة تشق على اللسان وتكده، والأخرى تراها سهلة لينة (...) خفيفة على اللسان، حتى كأن البيت بأسره"كلمة واحدة وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد"[14].
ولعل "... حرص العرب عل ضرورة اتحاد أبيات القصيدة، وتماسك أجزائها هو الذي دفعهم إلى الحديث عما تواضع أهل البلاغة على تسميته بـ "حسن التخلص"، وذلك لأن الشاعر إذا عرف كيف يحسن الانتقال من موضوع إلى آخر في القصيدة الواحدة جاء شعره متماسكا، وكان أثره في نفس المتلقي عظيما"[15]. وذلك ما أشار إليه من قبل ابن قتيبة، وابن طباطبا، وعبد القاهر الجرجاني.
وعليه، فسوف نعرض في المساحة التالية لمعلقة زهير ابن أبي سُلمى، وتحليلها لإثبات صحة الفكرة التي تقول: إن القصيدة الجاهلية ليست مفككة وإن تعددت موضوعاتها.  

II- معلقة زهير بن أبي سلمى:

إن المتأمل في معلقة زهير بن أبي سلمى الميمية، يجد دون أدنى شك أنها قد اشتملت على كل مقومات الوحدة والانسجام.
تقع المعلقة في تسعة وخمسين بيتا، استهلها زهير بخمس عشرة بيتا كلها في الغزل بأم أو في زوجه، وأم بنين ماتوا وهم صغارا. ما أثر في الشاعر. وذات مرة غضب عليها، فطلقها وندم، وأراد أن يردها فأبت فبكاها وكبد ديارها ويظهر ذلك منذ مطلع القصيدة:

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم



بحومانة الدراج فالمتكلم

إلى أن يقول:

فلما وردن الماء زرقا جمامه



وضعن عصي الحاضر المتخيم

ومن البيت السادس عشر إلى الخامس والعشرين مدح هرم بن سنان الذبياني، والحارث بن عوف لحسن سعيهما في الصلح بين عبس وذبيان في حرب "داحس والغبراء" وتحملهما الديات.
مستهل هذا المدح في قوله:

سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما



تبزل ما بين العشيرة بالدم

ويستمر في ذلك إلى حدود قوله:

فأصبح يجري فيهم من بلادكم



مغانم شتى من إفال مرنم

لينتقل بعد ذلك إلى مخاطبة المتحاربين، ويطلب منهما الحرص على الصلح بعدما ذاقوا من قساوة وشدة الحرب، واصطلوا بنارها:

ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة



وذبيان هل أقسمتم كل مقسم

وذلك إلى البيت الثالث والثلاثين:

فتغلل  لكم ما لا تغل لأهلها



قرى بالعراق من قفيز ودرهم

وفي هذا الموضع بالذات أتى بأبيات من أجود وأخير  الشعر في وصف الحرب وويلاتها والسلم وفوائده.
ثم عرض لحصين بن ضمضم و****، وقد كاد يشعل فتيل الحرب مجددا، بعد تأهب القبيلتين للصلح:

لعمري لنعم الحي جر عليهم



بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم

ويستمر في ذلك حتى البيت السادس والأربعين:

كرام فلا ذو الضغن يدرك قبله



ولا الجارك الجاني عليهم بمسلم

حتى إذا وصل إلى البيت السابع والأربعين:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش



ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

أتى بأبيات من الحكمة والموعظة ختم بها معلقته.
فالأبيات ككل يجمعها خيط رفيع، وموضوع واحد هو: "الدعوة إلى السلم".
فيما يخص علاقة الأبيات بعضها ببعض، فأول شيء يجمع بينها هو الوزن، فالقصيدة من بحر الطويل:( فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن ×2).
وروي واحدهو(الميم)،وقافيةموحدة(ثلْلَمي/معصمي/مجثمي...)، وهي من المتدارك، وهي قافية مطلقة على طول القصيدة، ذلك أن الروي جاء متحركا.
وبالاقتصار على البيت المذكور أعلاه يمكن أن نحدد حروف وحركات القافية في:
- الروي: الميم، حركته (الكسرة، وتسمى المجرى).
- الياء: والياء هنا جاءت وصلا.
وهناك روابط أخرى أهمها "الضمير"، بمعنى أن هناك أبيات يصعب فهمها دون الرجوع إلى ما قبلها، فمثلا يصعب فهم البيت الثاني دون اللجوء إلى البيت الأول، فضمير الهاء في البيت الثاني (عبارة: دار لها)، إشارة إلى أم أوفى في البيت الأول. وكذلك البيت الثالث (بها العين) في علاقته بالبيت الثاني (دار). والبيت الرابع (وقفت بها)، وعلاقته بالثاني (دار)، والنون في جعلت (البيت الثامن)، إشارة على الضغائن (في البيت السابع). و(علون: البيت التاسع / ظهرن: البيت العاشر / وركن: البيت الحادي عشر / بكرن: البيت الثاني عشر)، كلها إشارة إلى الضغائن (بالبيت السابع)، وكذلك الشأن في البيت الثالث عشر: فيهن، والبيت الخامس عشر: وردن، وعلاقتهما بنفس البيت (السابع).
ففي هذه الأبيات يصف الشاعر تلك الضغائن أو النسوان (من طيب عيش، وحسن، ووسامة، وتأنق، ومناظر معجبة لعين الناظر المتتبع محاسنهن وسمات جمالهن)، في طريقهن إلى منبع الماء، وحتى وصولهن.
وكذلك الشأن في الأبيات (ست عشر/ سبعة عشر/ ثمانية عشر/ تسعة عشر/ عشرون/واحد وعشرون / اثنان وعشرون) يؤذي بعضها إلى بعض في تسلسل منطقي، وفي تكامل يصعب معه فصل بيت عن الآخر؛ فكلمات (السيدان / تداركتما/ قلتما/ أصبحتما/ عظيمتين) كلها تشير إلى الساعين (هرم ابن سنان/  والحارث بن عوف).
ونفس الشيء في الأبيات (ثلاثين، واحد وثلاثين، اثنان وثلاثين) يربطها بالبيت (التاسع والعشرون)، ضمائر (كالهاء في تبعثوها، والكاف في تعرككم، والضمير المستتر (هي)، في تفتح) كإشارة إلى الحرب.
وغير هذا، من الضمائر، مما يفسد دعوى استقلالية الأبيات داخل القصيدة الجاهلية، ثم حروف العطف (الواو، والفاء)، وأكثرها في المعلقة (الواو) فقد وردت في الأبيات (اثنان، ثلاثة، أحد عشر، ثلاثة عشر، عشرون، تسعة وعشرون، خمسة وثلاثون، ستة وثلاثون، ثلاثة وأربعون، ثمانية وأربعون، خمسون، واحد وخمسون، اثنان وخمسون، ثلاثة وخمسون، أربعة وخمسون، خمسة وخمسون، ستة وخمسون، سبعة وخمسون، ثمانية وخمسون، تسعة وخمسون، ستون، اثنان وستون، ثلاثة وستون). والفاء في الأبيات (ستة، خمسة عشر، سبعة عشر، واحد وعشرون، خمسة وعشرون، سبعة وعشرون، واحد وثلاثون، اثنان وثلاثون، ثلاثة وثلاثون، سبعة وثلاثون، واحد وأربعون، أربعة  وأربعون).
فوجود هذين الحرفين – وغيرهما – بقوة داخل المعلقة، دليل على تماسك الأبيات وانسجامها.
وقد اعتنى زهير أيضا بتوظيف أدوات الشرط، ومنها (من)، فقد جاءت متصدرة الأبيات: (خمسون، واحد وخمسون، اثنان وخمسون، ثلاثة وخمسون، أربعة وخمسون، ستة وخمسون، سبعة وخمسون، ثمانية وخمسون)، فحاولت تربط صدور الأبيات بأعجازها، ما يدل على وجود ترابط حتى داخل البيت الواحد، ودليل أيضا على رغبة الشاعر الجامحة، في خلق الصلح بين القبيلتين.
هذا، ولم يغفل الشاعر أيضا أن وصف الأفعال بأنواعها (فعل الماضي، وفعل المضارع، وفعل الأمر)، ويظهر ذلك في الجدول أسفله: 
                                                                  
أفعال الماضي (49 فعلا)
أفعال الحاضر (84 فعلا)
أفعال الأمر (4 أفعال)
أوفى – وقفت
يمشين – ينهضن
انعم – اسلم
عرفت – قلت
يتلثم – ترى
تبصر – ابلغ
تحملن – جعلن
يعلون – يؤرق

علون – وركن
يحطم – يقين

بكرن – استحرن
ندرك – نسلم

نزلن – وردن
يستبح – يعظم – تعفى

وضعن – ظهرن 
ينجم – ***** – يجري

جزعن – بدا 
تكتم – يخفي – يكتم

سعد – تبزل
يعلم – يؤخر – يدخر

أقسمت – طاف
يعجل – ينقم – تبعث

وجد – تدارك
تضر – تضرم – تعرك

تفان – رق
تلقم – تنتج – تتئم

أصبحت – بعيد
ترضع – تفطم – تغلل

عظم – هدي
تفل – يوات – يتقدم

أقسم – علم
أتقي – يفزع – تقلم

ذاق – ضر
يظلم – يعاقب – يبد

جر – كان
يظلم – تفرى – يعقل

طوى – أبد
يعصم – يدرك – يعش

قال – شد
يسأم – تصب – تمت

ألقى – رعى
تخطئ – يعمر – يهرم

قضى – أصدر
يصانع – يضرس – يوطأ

شارك – طرق
يجعل – يفر – يتق

سئم – رأى
يشتم – يكن – يبخل

هاب – أعطى
يستغن – يذمم – يوف

عاد
يهد – يتجمجم – ينلن


يرق – يجعل – يندم 


يعص – يطيع – يذد


يهدم – يغترب – يحسب


يكرِّم – يكرَّم – تخفى


تعلم – يبق

  
يتضح من خلال الجدول غلبة أفعال المضارع، مما يدل على ارتباط الشاعر الوثيق بواقع الحال، وسعيه الجبار في الصلح، وربما هذه الرغبة الملحة والآنية هي التي أملت عليه التقليل من أفعال المستقبل. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فقد يتصور البعض أن تعدد الأغراض داخل المعلقة هو رمز من رموز التفكك والاستقلال.
أنا أقول لهذا البعض إنك لو تأملت معلقة زهير بن أبي سلمى ونظرت فيها فأمعنت النظر، لاتضح لك أن المعلقة يجمعها خيط رفيع. وإنك ترى المعلقة كما لو أنها كلمة واحدة، وترى الشاعر كما لوا أنه سلك فيها منهاج أصحاب الرسائل في بلاغتهم، وتصرفهم في مكاتباتهم؛ حيث انتقل من غرض لآخر بألطف تخلص وأحسن حكاية، ودون انفصال للمعنى الثاني عما قبله.
كل ذلك بأفصح الألفاظ وأسهلها، والوقوف على مراتب القول، وتحري الصدق. فقد كان زهير (كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه)، "لا يعاظل بين الكلام، ولا يتتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه، ثم قال ابن سلام على عقب هذا الكلام: قال أهل النظر: كان زهير أحصفهم شعرا، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من المنطق وأشدهم مبالغة في المدح (...)، ويشهد لقول عمر رضي الله عنه في زهير أنه لا يمدح الرجل إلا بما فيه استحسانا لصدق ما جاء به الأثر أن رجلا قال لزهير: إني سمعتك تقول لهرم:

ولأنت أشجع من أسامة إذ



دعيت نزال ولج في الذعر

وأنت لا تكذب في شعرك، فكيف جعلته أشجع من الأسد؟ فقال: إني رأيته فتح مدينة وحده وما رأيت أسدا فتحها قط!! فقد خرج لنفسه طريقا إلى الصدق، وبعدا عن المبالغة..."[16].
ولشدة صدق زهير سمي "قاضي الشعراء"، فقد "... قيل: إن عمر بن الخطاب كان يتعجب من قول زهير:

فإن الحق مقطعه ثلاث



أداء أو نفار أو جلاء

(...) يقول: لا يقطع الحق إلا الأداء، أو النفار – وهو الحكومة – أو الجلاء – وهو العذر الواضح – (...) وهذه الثلاث على الحقيقة هي مقاطع الحق كما قال..."[17].
ولشدة حرصه على تنقيح، وتنميق شعره، لقب بـ (عبيد الشعر). فقد "... كان الأصمعي يقول: زهير والنابغة من عبيد الشعر، يريد أنهما يتكلفان إصلاحه ويشغلان به حواسهما وخواطرهما (...)، وكان بعض الحذاق بالكلام يقول: قل من الشعر ما يخدمك، ولا تقل منه ما تخدمه، وهذا هو معنى قول الأصمعي..."[18].
والكلام في هذا الباب طويل، وقد أفاض فيه الأدباء والنقاد منذ القديم إلى يوم الناس هذا.
على أي، فالمعلقة بأجزائها متكاملة البناء، مترابطة الأعضاء، يؤدي كل منها إلى الذي يتلوه ويشاركه في الوظيفة الكلية، التي هي السلم والصلح.
كل هذا بعبارات منمقة، وأساليب مرصعة، وخطاب حكيم، وتصور تام، وإلا فكيف بابن طباطبا العلوي يقول: "فمن الأشعار المحكمة المتقنة المستوفاة المعاني، الحسنة الرصف، السلسة الألفاظ، التي قد خرجت خروج النثر سهولة وانتظاما، فلا استكراه في قوافيها، ولا تكلف في معانيها، ولا عي لأصحابها فيها قول زهير:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ومن يغترب يحسب عدوا صديقه




ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم"[19]


ولا أخفيكم علما، أن ما راع انتباهي، وأملى علي اختيار هذه المعلقة إنما هو البعد الديني القوي الذي تحتضنه بين ذراعيها، فهي مضرب في المثل، وآية في الموعظة. وكن متيقنا أخي أنها لو ألقيت هكذا دون أن يحدد قائلها، لعدوها من شعر الإسلام لا مناص.

 خاتمة:

يمكن القول إذن، إن ما يجب على كل ناقد ناقد، هو النظر في العمل بعين البصيرة، قبل الحكم عليه، سواء سلبا أو إيجابا. ولعله الأمر الذي افتقدناه في نقادنا، مع وجود بعض الاستثناءات – عندما تصدوا لبناء القصيدة العربية الجاهلية، فوصفوه بالتفكك.
في حين أصبحنا نرى أن معلقة زهير – كغيرها من المعلقات -  يوحدها موضوع واحد، هو الصلح والسلم، ويجمع أغراضها حبل رفيع، يصعب قطعه.
حتى أن كل الأدوات، والأساليب الفنية والبلاغية تسير في نفس التوجه.
أقول قولي هذا، واستغفر الله رب العالمين.

  


[1] - محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي، عيار الشعر، تحقيق د. محمد زغلول سلام، دار المعارف، الإسكندرية، ط 3، 1984م، ص: 32.
[2] - نفسه، ص: 32.
[3] - عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز.
[4] - عيار الشعر، ص: 34.
[5] - أبو الحسن بن رشيق القيرواني الآزدي: العمدة في محاسن الشعر وآدابه  ونقده، تحقيق وتعليق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء ، ج 1، ص: 218.
[6] - نفسه، ص: 217.
[7] - نفسه، ص: 121.
[8] - العمدة، ج 1، ص: 223.
[9] - محمد عبد العزيز الكفراوي: الشعر العربي بين الجمود والتطور، مكتبة نهضة مصر، ط 2، 1378 هـ/1958م، ص: 25-26.
[10] - الشعر العربي بين الجمود والتطور، ص: 28-29.
[11] - الشعر العربي بين الجمود والتطور، ص: 31-32.
[12] - العمدة، ج 1، ص: 98.
[13] - علي عبد الله إبراهيم (كلية الآداب – جامعة الملك سعود، الرياض، المملكة العربية السعودية)، الوحدة النفسية في القصيدة العربية القديمة، دراسة تطبيقية تقوم على عرض عينتي متمم والحادرة وتحليلها، ص: 1.
[14] - عمرو بن بحر الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط 5، سنة 1985، ج 1، ص: 66-67.
[15] - الوحدة النفسية في القصيدة العربية القديمة، ص: 2.
[16] - العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، أبي الحسن بن رشيق القيرواني الآزدي، تحقيق وتعليق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، ج 1، ص: 98-99.
[17] - العمدة، ج 1، ص: 55-56.
[18] - نفسه، ج 1، ص: 133.
[19] - عيار الشعر، محمد بن احمد بن طباطبا العلوي، تحقيق د. محمد زغلول سلام، دار المعارف الإسكندرية، ط 3، سنة 1984، ص: 89.

هناك تعليقان (2):

Unknown يقول...

السلام عليكم
زاد فضلكم
هلا تكرمتم باسم الباحث تاما حتى يوثق المقال على نحو أكاديمي
مع الشكر والتقدير

Unknown يقول...

السلام عليكم
زاد فضلكم
هلا تكرمتم باسم الباحث كاملا وكل ما يفيد في التوثيق الأكادمي
مع الشكر